أن تسمع بالفساد وتلعنه وتكتب ضده خير من أن تراه بأم عينيك. صدقنى عندما أقول لك ذلك، أو انتظر حتى أحكى لك (والله على ما أقول شهيد) واقعة الفساد هذه التى شاء قدرى أن أشاهدها وأعرف هويات مرتكبيها وأنا مكتوف الأيدى، تماماً كأى جبان يشهد بعينيه جريمة اغتصاب مكتفيا بالبكاء خوفاً على حياته. كنت أتسكع على غير هدى فى المول الفخيم المطل على النيل، عندما دفعنى هوسى بالمكسرات صوب ذلك الكشك الأنيق الذى أقامه محل بيع المكسرات الشهير فى الدور الأول من المول، سلمت يداً من أبدع هذه الفاترينة الضخمة الفارهة التى يتجاور فيها المملح مع المحمص مع المقرمش فضلا عن كل ما يخطر على بالك من أفخر أنواع الياميش حلوة وحادقة، لا يفترض فيك أحد هنا أن تشكو من التهاب الأسعار، وقد دخلت برجليك إلى مول كهذا، ثمن كوب الفرابتشينو فى كافيهاته يشقى الملايين خارج هذه الجدران المكيفة ليحصلوا عليه كأجرة عمل يوم طويل، إحمد الله على أنك بتّ تعرف كُنه الفرابتشينو ولم تعد تظنه ماركة عطر، ثم زده حمداً على نعمة أن المكسرات لم تعد مرتبطة بالكام لوزة التى يخلطونها بكميات السودانى ويحشونها لك فى القطائف لتلهطها فى ليالى رمضان المعظم، واختر إذن بقلب جامد ما لذ وطاب مما غلا ثمنه ووجب أكله. فجأة أخرج من خواطرى الطبقية عندما يقتحم نطاق الكشك ثلاثة أشخاص مريبو الملامح، أشعر حرفياً أنهم شفطوا الهواء المحيط بنا، يرتبك الشاب الواقف فى الكشك بشدة عندما يرددون له أسماءهم وصفاتهم، البهوات مفتشو صحة جاؤوا فى زيارة مفاجئة لتفقد بضاعة الكشك، ما هذا الحديث المريب عن ملامحهم؟، ألا ينبغى أن تفرح لأن ذراع رقابة الحكومة لم ترتعش وهى تدخل هذا المكان الذى لا يمت بصلة لكل ماحوله من عشوائيات، ألا ينبغى أن تنظر إلى رجالها بمودة صافية لأنهم لم يلقوا بالاً لفخامة الكشك وقرروا أن يتعاملوا معه كأيتها عربية كبدة وسجق متلقحة فيكى يا شوارع مصر، هل نسيت أصلك وفصلك وبدأت تكيل بمكيالين، أحاول ألا أقسو على نفسى وأطالع ملامحهم مستعيداً ما كنت أسمعه من جدتى عن تبدل سحنة الإنسان عندما يعتاد أكل الحرام، تزداد ريبتى عندما أرى الحوار يدور همساً وغير مريح بينهم وبين شاب الكشك، أقرر أن أنتظر مستنداً إلى عمود مجاور للكشك ومتلصصاً على ما يحدث، لأستمع بعد دقائق إلى هذه المكالمة التى أجراها كبير المفتشين مع محام يبدو أن شاب الكشك لديه تعليمات بالاتصال به فى زيارات كهذه. «مافيش يا متر، أصل جالنا بلاغ فى الإدارة من ست اسمها... بتقول إنها اشترت من الفرع بتاعكو ده كميات ياميش ولما روحت لقت فيه ديدان وأجسام متحركة، وقدمت مع شكواها عينات تأكد كلامها.. يابيه أنا عارف أنا باقولك إيه.. البلاغ معايا وتقدر تشوفه بنفسك.. وبعدين على فكرة العينات اللى إنت عارضها أصلاً فيها روايح مش كويسة.. وكمان مش محطوط عليها تواريخ صلاحية.. يابيه مافيش حاجة اسمها فتارين.. المفروض إنك تحط على كل حاجة تاريخ صلاحيتها.. أنا مضطر آخد عينات وأوديها الفحص واشمع المكان وأعمل محضر بالشكوى.. إيه.. يعنى اللى تشوفه بقى أنا تحت أمرك.. مع حضرتك (..) على فكرة الحاج (..) عارفنى كويس.. أنا جيت قبل كده فتشت عندكو فى المصنع فى ستة أكتوبر.. يابيه أنا تحت أمرك.. أنا هاعمل معاك واجب جامد عشان خاطر الحاج بس.. بس أنا معايا زمايلى إن شاء الله.. ولا يهمك يابيه.. ماتشغلش بالك.. أنا هاضبط كل حاجة.. بس أنا مش هاقدر أرجع من غير ما أعمل محضر.. ماتقلقش هاعمل محضر إنى مالقيتش تواريخ الصلاحية.. آخرها هيتعمل لك غرامة.. يعنى هيجى لك أمين شرطة كمان سنتين يحصلها.. ماتقلقش يابيه.. إحنا عارفين بنعمل إيه.. ماشى على ما أقفل المحضر أنا مستنى سيادتك.. ابقى سلم لنا على الحاج.. كلم المتر يا كابتن». أشعر بالغثيان فأبتعد عن مسرح الجريمة مكتفيا بما اقترفته من تواطؤ بالصمت، أطيح بكيس المكسرات فى أقرب صندوق مهملات، لا أكاد أبتعد خطوات حتى ينادينى عامل النظافة «يابيه الكيس ده بتاعك»، أهز رأسى نافياً فألمح نظرة فرح تلتمع فى عينيه فتزيدنى انكساراً وخذلانا، أفكر أن أنصحه بترك الكيس، لكننى أتذكر من أنا ومن كنت وماذا سيفعل هو لو قلت له ما سمعته، أتركه لفرحته وأسارع بالخروج من المول قبل أن تخنقنى رائحة العفن التى يظنون أنها تختفى بتأثير الفريون، وأتمنى أن أجد وسط العفن الذى ينتظرنى بالخارج، نسمة هواء، هواء بتاع ربنا. * يستقبل الكاتب بلال فضل تعليقاتكم على مقالاته عبر بريده الإلكترونى الخاص. [email protected]