هناك جيل ذهبى شاهد على أربعة عصور عاشتها مصر.. جيل ينتمى إليه والدى.. فى طفولتهم عاصروا الملكية.. وفى بدايات شبابهم عاصروا الثورة وفرحوا بها وساهموا بشكل أو بآخر فى تحقيق أهدافها.. فى بدايات عصر مبارك تمت الاستعانة ببعض أبناء هذا الجيل للنهوض بالبلد، وتشكلت بهم حكومة الدكتور عاطف صدقى وكان منهم أبى.. واندفع هؤلاء يحملون المسؤولية وكلهم حماس وتفان لتحسين الأوضاع.. وبالفعل شهد البلد أقصى فترات الازدهار فى فترة حكومة عاطف صدقى.. فكانت مصر فى تلك الفترة عروسة بتضحك.. لكن، ولأن دوام الحال من المحال، بدأ الفساد على استحياء يدق أبواب بعض من الوزراء فى تلك الفترة.. ولأن المنصب فتنة تجعلك تظن أنك من الآلهة، فقد استجاب البعض لنداء الفساد ففتح له الباب وتركه يدخل بحماره.. فى تلك الفترة كنت أستفز جدا عندما كان يصف أحد والدى بأنه «راجل محترم».. وكنت أعتبر هذه الصفة «شتيمة».. فإذا كان الوزير الفلانى يوصف بأنه جبار والوزير العلانى يوصف بأنه «يتفات له بلاد» وآخر يوصف بأنه داهية وذو بطش، فكيف إذن وسط كل هذه الزمبليطة اللى فى الصالون يوصف أبى بأنه «راجل محترم» وبس؟!.. وكنت أفكر ساخرة: «طب مش ممكن حتى يوضع اسمه من باب المجاملة فى لستة الممنوعين من السفر علشان أتنطط على أصحابى؟».. كنت لصغر سنى لا أفهم معنى أن يكون لى أب لا يذكره الناس إلا بأنه راجل عظيم لأنه محترم.. ولكن بمرور السنين فاحت روائح مخالفات المسؤولين الواحدة تلو الأخرى، فلحقت الفضائح بالجبار واللى يتفات له بلاد والداهية ذى البطش حتى وهم فى مناصبهم.. وأتابع الآن كيف عادت الألسنة تلوك سيرة الوزير العائد إلى الأضواء وكيف فتحت ملفاته من جديد.. ما أصعب أن يقف شخص فى موقف دفاع عن نزاهته وشرفه.. وما أصعب أن يحمل أبناؤه هذه الجرسة.. وتذكرت موقفا حدث لى قبل انضمام أبى لحكومة عاطف صدقى.. ففى طفولتى كنت أعشق الفواكه المسكرة، وكنت أحكم على أبى حكما قراقوشيا أن يحضرها لى أسبوعيا من أحد المحال الكبرى بجوار عيادته بوسط البلد، وكثيرا ما كان يخفق فى إحضار تلك الحلوى لأن «العيادة كانت زحمة والمحل قفل» فكنت أبكى بحرقة. وفى أحد الأيام شبطت فيه أن أذهب معه إلى العيادة، وهناك- ورغم أنه لم يكن يتأخر عن مواعيد- إلا أننى فوجئت بأعداد رهيبة من المرضى ينتظرونه حتى بلغت طوابيرهم السلالم من الدور السابع حيث مكان العيادة إلى الدور الأرضى.. ويومها فكرت بذكائى الفذ أن أقوم بتطفيش الزباين علشان بابا يخلص العيادة بدرى ونلحق المحل قبل ما يقفل.. فبدأت ألعب وأتنطط بجوار المرضى وأغنى أغانى مزعجة وأعمل دوشة علشان يقوموا يروحوا.. فما كان من التمرجى إلا أن دخل يشكونى لأبى لأنى عاملة إزعاج.. فطلب منى والدى أن أجلس معه فى حجرته الخاصة وإلا «مافيش فواكه مسكرة».. فانصعت للتهديد.. وهناك، رأيت أبى وهو يعطى نقودا من جيبه لبعض المرضى أو يوصى التمرجى أن يسند مريضًا للأسانسير أو أن ينزل معه يوقف له «تاكسى»، ووجدته مع مرضى آخرين يعيد ثمن الكشف.. وبهذا تلقيت أول درس فى حياتى فى الحنية على الغلابة، وإن كنت لم أعه حينئذ لصغر سنى حتى إنه حين سألتنى إحدى زميلاتى فى المدرسة عن كشف والدى لأن والدتها تريد الذهاب إليه أجبتها بكل ثقة: «الكشف ببلاش وهيديها فلوس وهى ماشية».. غالبا والدتها ظنت فى أبى الظنون!.. المهم، أن مشهد ما رأيت فى عيادة أبى ظل معى حتى الآن، وجعل عندى يقينًا أن الشرف أو الفساد لا يهبطان على الإنسان بالبراشوت.. فالشريف شريف من يومه.. وهذه الأيام وأنا أتابع الهجوم على الوزير العائد - وليته ما عاد رفقًا بأبنائه - أشعر الآن أن أعظم ما قيل عن أبى هو تلك الكلمة التى كانت تستفزنى قديمًا.. أنه «محترم».. لأنها تحمل كل صكوك الشرف والنزاهة النادرة.. فهو لم يحتج أن يحتمى بوسام أهداه له رئيس الجمهورية ولم يحتج أن يذهب لبرنامج البيت بيتك يدعو الناس أن ينسوا ما فات على غرار أم كلثوم، إن اللى فات ننساه وننسى كل قساه.. ومع مجهودات هذا الوزير فى تبرير عودته للأضواء أجدنى أشعر بمنتهى الفخر لأنى بنت راجل محترم.. محترم وبس.. محمود عند الناس وشريف بينهم.