عرفتك مُذ كُنتُ جنينا فى رحم التكوين.. منذ عرفتُ التأرجح على هُدبى القمر.. والسفر على هودج الأحلام.. عرفتك فارسا.. حِصانه هامة ضِياء.. مساره بين نجوم.. يتهادى بين يوم وغد.. . نزق وسكون.. ووعى ولا وعى.... عرفتك احتمالاً فى باقة تكهنات.. دفئاً فى حنايا تفاصيل.. سرّا فى خفايا كينونة.. وعباءة غَيْرة تسْتُر عُرى تمرّد على فوهة ثورة.. عرفتك طيفا قادما من عالم لا مرئىّ.. وبوابة لم تفتح لكائن.. عرفتك منذ استغثتك، فأجبتنى حين انتفضتُ ذُعرا من صدى رصاصات غدرِ تخترق جدار الصمت فى حىّنا البغدادىّ المسكون بالخوف.. تمزّق جَسَدى (خالد وعبدالحميد) الجامعيّين الحاملين مشعلى فكر ومشروع عدالة بكفيهما المضرجتين بدماء الحرية... عرفتك منذ عرفت معنى الفكر والمفكّرين.. منذ شاهدت المسرحية المأساة على خشبة التاريخ.. منذ رفع الستار عن الصراع الدائر بين مثقف وسلطة.. بين مُصادِرى عقلٍ من محدودى ثقافة وأصحاب موروثات منهجية تتعمد سلب قيمة العقل وإلغاء وظيفته مخالفة كل نواميس الكون والإنسانية خوفاً من الفشل والمواجهة، لتنفيذ أبشع عملية إرهاب تفوق فى خطرها المفخخات والعبوات الناسفة.. تقودها السلطة وعلماء دين وطائفية وحكومات غير مقيدة بقوانين.. فى مجتمعات منغلقة ذات ثقافات شمولية مؤدلَجَة ومؤسسات تنتهج أسلوب إرهاب للفكر والعقل.. وتنظيمات مختلفة مدعّمة لممارسة الضغط والعنف والاضطهاد على المفكرين.. كى يتسنى لها نشر أفكار هدّامة مفروضة من قوى خارجية.. مشبوهة لعرقلة مسيرة البناء والتطور وإخضاع الفكر لعبودية الموالاة. يستمر العرض وتستمر الفصول لتظهر مشاهد عنف فِكرىّ.. ها هو «سقراط» وهو يُشنق.. و«ابن جُبيْر» وهو يُعْدَم.. و«الإمام مالك» و«ابن حنبل» و«الطبرى» و«الشافعى» المقَىّد بالحديد ومثلهم «ابن رشد» و«ابن حزم» و«ابن خلدون» و«الحلاج» و«ابن تيمية» وقائمة تضم الكثير... ثم لتظهر السلطة فى مشهد آخر حاملة سيف الاستبداد والبطش والتهديد والوعيد والتصفيات الجسدية والنفسية ونصب الكمائن الأخلاقية وذبح الإبداع بعد محاصرته بصيحاتِ وتهديداتِ أعوانٍ ومُريدين بالويل لمن لن يتراجعَ ويخضع.. ثم مشهد لجمهورٍ حانقٍ مُنذرٍ متوعد ومُتربصٍ بمن خافَ وخنَع.. ليقف المفكّر حائرا بين نار سلطة مستعرة وبحر جمهوٍر ثائر.. وزخّات تهديد واتهامات تقليدية بتجسس وعمالة لأمريكا وإسرائيل والإمبريالية.. وكُفٍر وشُذوذٍ وزِنى وموبقات شتّى.. ولا نجاة إلا لمن فتح الله له باب منفى ليبدأ صراعا آخر.. تتتابع المشاهد والفصول.. تتصاعد الأحداث.. صيحات وفوضى وزرع خلافات والتباس تفاسير واشتباه فى أذهان العامة.. نظريات متعددة.. أفكار تدميرية.. ثقافات متطرفة.. نفاق ووصولية بحجة الخوف على الأمة ممن يصعب تدجينهم من أهل الفكر.. هلع من كتاب مكتوب بمداد فكرٍ ومصادرة ومنع تداول.. ناسين أو متناسين «هوجة» الفضائيات والشبكات العنكبوتية وكل أنواع (التكنولوجيا) الحديثة وإتاحتها للقارئ والباحث ما خفى ومُنع من معلومات وحقائق... ذُعرٌ من منتدى مزروع بالثقافة وديمقراطية الحوار... مطبوعات جنس وفضائح وسحر أحمر وأسود لجلب الحبيب والرزق دون عناء.. تتناثر على الأرصفة علنا.. أوكار رذيلة مفتوحة الأبواب دون رقيب.. قاعات محاكم تعجّ بقضاة.. وهيئات دفاع تحيط بعتاولة إجرام.. وأخرى خاوية تخيم عليها أشباح الموت يتوسطها مفكر ومثقف يُساق متعكزاً على نظريات صدقٍ إلى زنزانة قهر ومكتب تعذيب وتأديب.. ميزان عدل متراخٍ على حبل سِتار... من سيسدل الستار سواك؟ يا من وشَمْتك على شغاف الصبر وبايعتك زنداً يزرع مفهوم فكر شمولىّ حرّ ليثمر وعياً... يا أنت.. يا من بايعتك كفّا تحمل معوَل نورٍ يحطّم تابوهات الجهل والتخلف.. ينطلق من عمق القاعدة نقاءً يغسل الصدأ الممتد حتى القمة.. يا أنت يا من بايعتك فجرا يبزغ لأمة حضارة ذات وسائلٍ تؤهلها لدور ريادةٍ كسابق العهد. يا أنت.. يا من بايعتك معجزة تفكّ خرس الألسنة.. تطهّر وطنى المغتصب من تلوّث الخيانة والقمع وعفن المرتزقة والغرباء. آخر الكلام: للمفكر الإسلامى الجزائرى مالك بن نبى:(أزمة العالم الإسلامى منذ زمن طويل لم تكن أزمة فى الوسائل وإنما فى الأفكار).