كاد السيد جمال مبارك يقدم لنا عبارة جديدة على شاكلة «لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين» يقول فيها «لا سياسة فى العلم ولا علم فى السياسة»! جاء ذلك فى حوار مفتوح مع خريجى جمعية جيل المستقبل شدد فيه الأستاذ جمال على رفضه التدخل الحزبى فى الجامعات قائلاً: السماح للأحزاب بالعمل فى الجامعات سيهدم العملية التعليمية ويقسمها، وسيؤدى إلى وجود انشقاقات بين الطلاب بعضهم البعض وكذلك أعضاء هيئة التدريس، مما سيفرغ الرسالة التعليمية من مضمونها، وحتى لو كان هناك بعض التيارات تمارس دوراً داخل الجامعات بالمخالفة فلا يجب أن تكرر الخطأ، وهذا لا يعنى منع الطلاب من المشاركة فى أنشطة حول القضايا العامة والسياسية دون تحول الجامعة من منبر للعلم إلى حلبة للصراع الحزبى. ولا يستطيع أحد أن يختلف على حقيقة أن دور الجامعة هو التعليم وتقديم الخريجين المؤهلين بشكل رفيع لخدمة المجتمع والقادرين على تنميته، بالإضافة، بالطبع، إلى البحث العلمى، لكن اللافت للنظر أن يثير السيد جمال مبارك موضوع العمل الحزبى فى الجامعة، وهو يتحدث إلى خريجى جمعية المستقبل، تلك الجمعية التى تأسست عام 1998 فى مقر مكون من خمسة أدوار فى قلب جامعة القاهرة، أكبر وأعرق جامعة مصرية! والسؤال البدهى الذى يطرح نفسه هنا: كيف نتحدث عن تحريم العمل الحزبى داخل الجامعات، فى الوقت الذى تعمل فيه جمعية المستقبل من داخل جامعة القاهرة؟! تلك الجامعة التى يرى السيد جمال مبارك أنها مكان لتلقى العلم والمعرفة، وليست ساحة للتدجين السياسى، وتعبئة الشباب فى صف حزب معين دون آخر! فجمعية المستقبل جمعية أهلية، لكنها حزبية حتى النخاع، والكل يعرف أنها امتداد للحزب الوطنى، فرئيسها السيد جمال مبارك هو الأمين العام المساعد للحزب، أمين لجنة السياسات، ويضم مجلس إدارتها مجموعة من قيادات الحزب الحاكم، أبرزهم أحمد المغربى، وزير الإسكان والمرافق والتنمية العمرانية، وأحمد عز، أمين لجنة التنظيم بالحزب الوطنى، عضو لجنة السياسات، ورشيد محمد رشيد، وزير التجارة والصناعة. بل من المعروف أن ما تقدمه الجمعية من خدمات ليس أكثر من أداة لإغراء الشباب بتعبئة استمارات العضوية بالحزب، بل يردد البعض أن فرص التعيين التى توفرها الجمعية للخريجين ترتبط بانتمائهم إلى الحزب الوطنى. كل هذا يحدث داخل مقر الجمعية القابع بجامعة القاهرة، رغم اعتراض البعض على هذا النشاط من منطلق أنه يؤثر على استقلال الجامعة. ولكى نكون منصفين لابد أن نعترف بأن الجمعية تقوم بنشاط مهم ولا غبار عليه فى رفع المستوى التأهيلى لشباب الخريجين من خلال منحهم دورات تدريبية فى مجالات متنوعة، تشمل الكمبيوتر واللغات وعلوم الإدارة وإعداد القيادات التنفيذية، وذلك بأسعار غالبا ما تكون رمزية، وهى خدمات لا يتفوق على الحزب الوطنى فيها سوى جماعة الإخوان المسلمين التى تقدم «عطاءات» شبيهة للمواطنين، من خلال العيادات المجانية بالمساجد، ومراكز الدروس الخصوصية التابعة للجماعة، ويتم التدريس فيها للطلاب بالمجان أيضاً! وعموماً فإن الشاب المستفيد يسدد فى النهاية باقى الثمن- أو كامل الثمن- من خلال الانتماء (حتى ولو بالمنظر) إلى الجهة التى تمنحه هذه الخدمة، فهو يعلم أنه لا يوجد أحد فى هذا البلد يعمل لوجه الله أو الوطن، ولو كان ذلك كذلك لاختلف حالنا كثيراً عما نحن فيه! وإذا كان الكثيرون يعترفون بأنه لا وجود للأحزاب السياسية فى الشارع المصرى أصلاً، فإنه من المضحك أن نتحدث عن حياة حزبية داخل الجامعات!، اللهم إلا إذا كانت الحكومة تعترف بجماعة الإخوان المسلمين دون أن ندرى، لأن المنافسة الحقيقية التى يواجهها رموز الحكومة والحزب الوطنى- طلاباً وأساتذة- داخل الجامعات تأتيهم من جانب جماعة الإخوان فى الأغلب، وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا التصريح للسيد جمال مبارك كاشفاً عن أن الحكومة لم تستطع أن تحقق أهدافها- من خلال جمعية المستقبل- فى تحجيم الوجود الإخوانى داخل الجامعات، لذلك تلجأ فى النهاية إلى الحديث عن الجامعة كمكان لتلقى العلم، وليست ساحة للمنافسة الحزبية. لقد حاولت حكومة الحزب الوطنى أن تنافس جماعة الإخوان بأساليبها، فإذا كانت الجماعة فى الأصل جمعية أهلية، فقد شكلت الحكومة جميعة المستقبل «الأهلية»، وإذا كانت «الإخوان» تعطى المال والوظائف وتقدم الخدمات يميناً ويساراً، فقد اجتهدت جمعية المستقبل فى هذا السياق أيضاً وحاولت إغراء الشباب وآبائهم بالمنافع التى يمكن أن تعود عليهم بالانضواء تحت لوائها، وإذا كانت «الجماعة» تعتمد على رموز دعوية تحاول أن تلقن الأجيال الجديدة أفكارها، فقد سعت «الجمعية» إلى الاستعانة بقيادات الحزب الوطنى لإلقاء محاضرات موجهة إلى الشباب تهدف إلى التعريف بأفكار وبرنامج الحزب، على هامش الدورات التدريبية، لكن يبدو أن الهدف المرجو لم يتحقق فى النهاية، فكان الكلام عن تحرير الجامعة من الحزبية والأحزاب انطلاقاً من شعار «لا حزبية فى الجامعات»! ويبقى أن المنافسة الحزبية القائمة حالياً- ما بين الجمعية والجماعة - داخل وخارج الجامعات على عقل ووجدان الشباب المصرى تفرز لنا فى النهاية جيلاً تضطره الظروف إلى أن يكون شديد الانتهازية، يحاول أن يفاضل ما بين القوى السياسية والحزبية، تبعاً لحجم المنافع الذاتية التى يمكن أن تعود عليه، ولا يهم الوطن بعد ذلك. وهذا الجيل لا يمارس سياسة فى النهاية، بل يمارس نوعاً من ال «شحاتة»، وللأسف الشديد فهو «يشحت» أقل حقوقه فى الحصول على خدمة تعليمية جيدة، أو وظيفة تدر عليه دخلاً معقولاً، أو حتى فى التعبير عن نفسه وعن فكره كما يشاء له هواه السياسى، ليترك فى النهاية جمعية المستقبل تصارع جماعة الإخوان على مسألة العمل الحزبى بالجامعة التى تحولت- شأنها شأن الكثير من مؤسساتنا- إلى «دكان شحاتة»!