تُهديه كتابَك فيقرؤه قبل أن يرتدَّ إليكَ طَرْفُك. ثم يعرِفُ أن ندوةً سوف تُعقَد حول كتابِك فيكونُ أوّلَ الحاضرين، وآخرَ المتحدثين. يعرفُ كيف يُلَخِّصُكَ، ككاتب أو كشاعر، فى جملةٍ موجزة، ويعطى روايتك أو ديوانَك طرحًا نقديًّا سابرًا فى كلماتٍ قليلة. فإذا كان ماركيز قد نعَتَ «إستبان» بطلَ قصّته بأنه «أجملُ غريقٍ فى العالم»، فأنا سأجدُ الشجاعةَ الماركيزية ذاتَها لأنعَتَ بطلَ مقالى بأنه «أجملُ قارئٍ فى العالم». اسمه «محمد كامل». يعرفُه كلُّ كتّابِ مصرَ، من شعراءَ وروائيين ونقّاد. لا يحملُ كتابًا من تأليفه ليهديه لك، على أنك لن تراه إلا حاملاً صُحُفَ اليوم جميعَها، وكتابًا أو كتابين هما حصّتُه هذا المساء. من العسير أن تسأله عن مبدع إلا ويكون قد قرأ أعمالَه أو بعضَها. القراءةُ حِرفتُه الأولى والأثيرة. ورغم صداقتى التاريخية به، إلا أننى، (اكتشفتُ الآن فقط، وأنا أكتبُ هذه الجملة، أننى نسيتُ أن أسأله عن حِرفته التى يعيش منها). ومَنْ يعبأ بذلك؟ لستُ يعنينى إن كان موظّفًا أو سلطانًا أو قبطانًا أو قاطعَ طريق، كلُّ ما يعنينى هو أنه قارئٌ رفيعُ الطراز، فى زمنٍ عزَّت فيه القراءةُ والرِّفعةُ. الفريدُ والطريفُ فى عمّ محمد كامل هو أنه يقيّمُ البشرَ تِبعًا لمواهبهم. فتراه يحبُّ فلانًا لأنه موهوب، ويغفرُ له ما لا يغفره لسواه. وتراه ينْفرُ من كثيرين لأنهم متسلّقون وفقيرو الموهبة. ميزانُه النقدىّ قاسٍ لا يعرف المجاملةَ ولا المحاباة. لن تندهشَ لو رأيته فى ندوة نقدية يطلبُ المداخلة فيقرّع الكاتبَ الشهير، بل والأساتذة النقّاد الذين جاءوا ليجاملوا كتابًا متوسطَ القيمة لكاتبٍ كبير الاسم. إذْ لا تجوزُ المجاملةُ فى الأدب والفن. وفى أحيان أخرى ستجده يقول شِعرًا فى كاتبٍ صغير يتلمَّس خُطاه بعدما لمح بذورَ موهبته مسطورةً على أوراق كتابه الأول، فيشجّعه، فيما النقادُ قد نكّلوا به! إذا كنتَ من روّاد دار الأدباء أو أتيلييه القاهرة أو ورشة الزيتون الإبداعية فلابد أنكَ أحدُ أصدقائه ممن ينتظرون، بشغفٍ، كلمتَه القصيرةَ فى نهاية الندوة، لكى تُنصتَ إلى نقدٍ انطباعىّ مكثَّف حول العمل، لا يخلو من وجهة نظر مغايرة لكل ما سمعتَه خلال الندوة. لذلك نعته الشاعرُ شعبان يوسف بالناقد المتنكِّر. فى تمام الثانية عشرة ليلا من مساء كلِّ يوم أحد، لابدَّ من أن أظفرُ منه بمكالمة تليفونية. أنتظرُها بشغفٍ كلَّ أسبوع. ليخبرنى عن رأيه فى مقال الغدِ الاثنين؛ بعدما يكون قد قرأه فى الطبعة الأولى من جريدة «المصرى اليوم» الصادرة ليلاً. هو القارئُ الأول والمَجَسُّ الحقيقىّ الذى أعرفُ عبره أخبارَ مقالى. تارةً يشجعنى قائلاً: المقال جميلٌ يا بنت، وتارّةً يُعنِّفُنى: اللغة عالية متنفعش جريدة يومية، وتارةً يعاتبنى: أنتِ مبالغة حبتين، وتارة يرفعُنى إلى عنان السماء: دى أجمل مقالة كتبتِيها! كلما التقيته لابد يُدخل يدَه فى جيبه لتخرجَ بحفنة من لبان تشيكلتس. عبثًا أخبره بأن بأسنانى تركيبات بورسلين، ومضغَ اللبان أمسى طقسًا من الماضى السعيد! لابد من أن آخذُ نصيبى من حلواه، شأنَ طفلةٍ مع بابا نويل. وحينما أعود إلى بيتى، يعبث ولداى بحقيبتى. فيهتفان هتافَ الحاذق الظافر: ماما، قابلتِ عم كامل النهارده، صح؟ فأجيبُ: صح! ثم يتقاسمان اللبان، وهما يرمقان صورتى الوحيدة معه فى اتحاد كتّاب مصر، وقد جاء يحضر ندوةً لى قبل أعوام ليقول: «البنت دى موهوبة.» فيتملكنى فرحٌ طفولىّ يفوق فرحَى بقطعة ضخمة من الشيكولاتة، أو حتى بحفنة من لبان عمّ محمد كامل. [email protected]