هذه زفرة من أعماقى، تنهيدة حارقة، خطاب من العقل إلى العقل، رسالة من القلب إلى القلب، حزن على الخطاب الدينى السائد، الذى لطالما لاحظت أنه يعتمد على نوع من (انتقاء التاريخ).. ساعدهم على ذلك غياب الملكة النقدية عندنا بسبب نظام التعليم القائم على الحفظ والتلقين بدلا من النقد والتفكير، فأصحاب النيات الحسنة يدافعون أحيانا عن الإسلام بطريقة تضره، لأنها تعود المسلمين على قمع العقل وكبت الملكة النقدية، بميلهم المفرط إلى المثالية المطلقة، ورسم صورة ملائكية غير واقعية للمجتمع الإسلامى الأول، والسكوت على جروح عميقة فى التاريخ الإسلامى، وافتعال الأعذار لأفعال يجب أن تدان. وفى الجانب الآخر أعداء الإسلام الذين يمارسون انتقائية غير عادلة تقوم على تتبع العورات وتجاهل البطولات وإخراج أحداث عن سياقها، والبحث فى كتب التراث عن وقائع لم يعد الذوق المعاصر يستسيغها. من المعروف أن كتب التاريخ الإسلامى القديمة دونت جميع الروايات دون تدقيق، ولم يحدث الجرح والتعديل فى التاريخ وذلك المنهج العلمى المحكم الذى طبقوه فى علم الحديث، ولذلك يجدون ما يخدم قضيتهم، ضاربين عرض الحائط بالأمانة العلمية التى تحتم عليهم عرض الأمر من جميع جوانبه وعدم ممارسة الانتقاء. وسؤالى الذى أطرحه هنا: هل إيماننا يلزمه الاعتماد على التاريخ، والصورة المثالية المبالغ فيها للمجتمع الإسلامى الأول كما يعرضها علينا خطباء المساجد ودعاة الفضائيات؟ أم أن إيماننا يجب أن يعتمد على التدبر فى كتاب الله، والتفكر فى الكون البديع من حولنا، ومغزى رحلة الإنسان على الكوكب الأرضى؟ إيمان يعتمد على معايير موضوعية وأسس منطقية تقبل النقل وتصمد أمام النقد، وإلا كان عملا وجدانيا بحتا قدرى الطابع، لا تفسير واضح له، مثل الحب والكره والانقباض والسرور! عن نفسى لم أعد أبالى على الإطلاق بالتاريخ فى حد ذاته، اقتتل الصحابة أو لم يقتتلوا؟، صلاح الدين بطل أم سفاح، اشتمل الفتح الإسلامى على تجاوزات أم لم يشتمل؟، كلها أشياء لم تعد تهمنى منذ آمنت بأن المبدأ أبقى من الشخص والوحى أهم من التاريخ، خصوصا أن القرآن الكريم لم يعط حصانة لأحد – مهما كانت منزلته – إلا بعمله وكفاحه، لا بقرابته وميلاده (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين). من مفاخر الإسلام أنه لا ينجو أحد بالميلاد أو يهلك بالميلاد، أو بصحبة أو قرابة أو زواج. وإنما بالعمل الصالح والتقوى والمثابرة. لم يزل إيمانى أن الإسلام رسالة توحيد طويلة مفرحة، انتظرتها الإنسانية فى لهفة، كانت ألغاز الكون بحاجة إلى تفسير، ومصير النوع الإنسانى بحاجة إلى تبرير. أقوام جاءوا، لماذا جاءوا؟.. أقوام بادوا، لماذا بادوا؟.. أفراح وأتراح.. قصور وأكواخ.. لماذا جئنا وأين نذهب؟.. كم هى حياة جميلة؟، كم هى حياة مريرة؟، كم يبدو سعينا عبثا!، وكفاحنا لهوا، وجهدنا هباء!.. نأتى ونذهب، وكأننا لم نوجد أصلا.. الأنهار تنحدر إلى البحر، والبحر ليس بملآن. كنا بحاجة إلى الإسلام، إلى الإيمان بيوم آخر تتحقق فيه العدالة الإلهية، إلى أجوبة لأسئلة محيرة، إلى ترسيخ التوحيد.. إله كامل متكامل، ليس كمثله شىء، عظيم الصفات، واحد أحد، فرد صمد، رحمن رحيم، عادل كريم، قوى جبار. يرانا ويرعانا، ولا يتساوى عنده المحسن والمسىء. القرآن الكريم: أروع كتاب فى التوحيد، عذب سلسبيل، صافى الماء، متراكب الأمواج، متراكم الأسرار، أهدانا الكمالات الإلهية، والرحمات المحمدية.. رسول لا يعرف الغيب، ولا يملك كنوز الأرض، ولا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا. رسول بمرتبة عبد، ونبى حقيقته الرحمة، لا يعرف الحادث غدا، والكائن غيبا، فى النهار كدح وفى الليل سجود، يتألف الناس ويرفق بهم، ويقبل منهم ما لا يقبله الملوك، محمد الذى يستبقى يد من يصافحه حتى يدعها هو، ويسجد على دابته خشوعا لله، وجيوشه تفتح مكة التى أخرجته وآذته، ويصفح عن المسيئين، قريب الدمعة، مطمئن الركوع، طويل السجود، سمح النفس، كريم العطاء. توحيد الله، والمكارم المحمدية والتفكر فى هذا الكون البديع، تلك هى مفردات الخطاب الدينى الذى أتمنى أن أسمعه من شيوخ المنابر ودعاة الفضائيات.