أعتقد أن ثمة صداما فى الأفق بين واقع عالمى متغير وبعض الأنظمة السياسية التى لن تتأقلم بسهولة مع متغيرات العصر.. نرى ذلك الصدام مثلا مجسدا فى محاولات النظام الإيرانى البائسة فى نظرى- على الأقل على المدى الطويل- للبقاء. من تابع خطبة الجمعة التى ألقاها مرشد الثورة الإيرانية، والتى تبعتها تلك الشراسة المطلقة فى التعامل مع المتظاهرين فى شوارع طهران، كان من السهل عليه أن يلاحظ أن هناك كلمة واحدة كانت تتكرر عشرات وعشرات المرات فيها: كلمة «المؤسسة». أخذ مرشد الثورة فى ترديد الكلمة، فقال مثلا إن كل الذين تنافسوا على السلطة فى الانتخابات كانوا من «المؤسسة»، وألا أحد يتحدى المؤسسة، وأن الناس نزلوا للإدلاء بأصواتهم من الأصل لأنهم يثقون فى المؤسسة، على عكس ما يدعيه أعداء إيران الذين يكرهون المؤسسة... إلخ. فى رأيى فإن هذا التكرار يعبر عن خوف وزعر يعكس عدم ثقة فى قدرة تلك ال«مؤسسة» الفعلية على البقاء. هذا الارتباك هو الذى نتج عنه الاستخدام المفرط للقوة فى قمع المظاهرات فى الأيام التى تلت خطبة المرشد، القمع الذى ربما نجح مرحليا فى إخمادها لكنه فى الواقع عمل على خلق وضع صارت فيه مخاوف المرشد على مؤسسته أكثر جدية، ذلك عندما تحول الرفض الشعبى من احتجاج على نتائج انتخابات معينة إلى رفض كلى للواقع السياسى والاجتماعى فى إيران.. وهو بذلك ينذر باقتراب انهيار عالم المرشد، انهيار عالم ولاية الفقيه الكهنوتى، لأن تصوراته صارت تبتعد عن الواقع كل يوم، تبتعد عن آمال الناس فى العالم المعاصر- لأنه لم يتعامل مع التحدى الذى واجهه بطريقة مرنة، كان من المكن أن تستوعبه وتقلل من حدته، إنما بطريقة متحجرة، عجلت من تحوله لاحتجاج على طبيعة الحكم الإيرانى نفسه. نفس نوع المشاكل، على الأقل من الناحية التصورية البحتة، تواجه حكومة نتنياهو فى إسرائيل. فلا نتنياهو ولا أحد من شركائه فى تلك الحكومة الخالية التصور العقلانى المستقبلى، لديهم قوة تخيل أى شىء خارج إطار الصراع الأزلى بين اليهود والعالم المحيط بهم.. مرشد الثورة لا يتخيل أى شىء خارج «المؤسسة»- فهو حبيس ثيوقراطية النظام التى صارت جزءا من هويته الذاتية- ونتانياهو، رغم كونه جزءا من نظام تعددى، لا يتخيل اى شئ خارج فطرية المضى فى بناء المستوطنات، فى التوسع وفى الصراع حتى النهاية- حتى إن كانت غير واضحة المعالم فى ذهنه. لا المرشد ولا رئيس الوزراء الإسرائيلى إذن يريد، أو حتى يستطيع، تصور أوضاع مغايرة، أى بوجود عالم عقلانى مبنى على أسس غير الأفكار التى تبناها وانغمس فى تفاصيلها. وغياب هذا النوع من الخيال من داخل المؤسسة يدل على أنها قد تعجز عن التعامل مع معطيات الواقع على المدى الطويل، ليتجاوزها الزمن. فى حالة إيران قد ينتج عن ذلك انهيار للجمهورية الإسلامية نفسها، وفى إسرائيل قد ينتج عن المزيد من التوسع فى الاستيطان نهاية الدولة اليهودية التى يريد نتنياهو من العالم الاعتراف بها- لأن المزيد من الاستيطان سيلغى قريبا وبصفة نهائية إمكانية حل الدولتين، مما سيفرض فى المستقبل حل الدولة الواحدة، وهو معناه نهاية فعلية لمبدأ دولة اليهود. إذن فالتحجر فى التصور هو الذى يؤدى للانهيار. المشكلة ليست مشكلة نتنياهو أو خامئنى إنما فى النزعة اللاعقلانية الكامنة دائما فى الأنظمة الوحدوية التى تعجز عن تطوير نفسها، فعجز هؤلاء فى التخيل يعكس غياب إمكانية المقارنة بوضع مغاير يمكن من خلاله تفعيل عملية النقد المنطقى، فإسرائيل مجتمع منفتح نسبيا وبه قدر كبير من التعددية السياسية والثقافية، لكنه يفتقد للتعددية الفكرية الأيديولوجية، فحتى أحزاب اليسار الصهيونى لم تستطع (خصوصا فى الآونة الأخيرة) فرض بوضوح رؤية مغايرة جذريا، رؤية بديلة تعبر بوضوح عن مستقبل للبلاد خارج حيز الصراع الأزلى. وفى غياب ذلك التصور يصعب التحرك نحو حل فعلى يخرجها ويخرج المنطقة من حلبة سيل الدم الدائم. أخيرا، بالنسبة للنظام المصرى. أين هو من كل ذلك؟ أعتقد أن على المدى الطويل على الأقل فهو واقع أيضا لا محالة فى مأزق عميق، فهو نظام توقف منذ حين عن طرح أى تصورات أو بدائل جادة على الإطلاق، ولا من الناحية التنظيمية ولا من الناحية الفكرية ولا فى السياسة الخارجية. ولا يشجع، بل يعمل على تحديد وتهميش وكبت، أى تصورات لهذه الأشياء قد تأتى من خارجه، خصوصا عندما تتناقض مرحليا مع اتجاهاته المتخبطة. لذلك فإنه يبدو محتوما عليه، إذا ظل فى صورته الحالية ولم يتطور ويصلح نفسه، إن يفشل نهائيا فى تلبية طموحات الناس الأساسية وفى التواصل مع العالم المعاصر.. ولأن الوضع عندنا يفتقد حتى القدر المحدود من التعددية الموجود فى المثالين السابقين، فإن المأزق الذى سنقع فيه، نتيجة لضيق الأفق التصورى، سيكون أعمق بكثير. وإذا ظل الضغط الحالى على إسرائيل لكى تغير من توجهاتها الاستيطانية وتجنح نحو التسوية، ثم على إيران فى مرحلة ما، لكى تكف عن قمع شعبها، فلا أعتقد أننا فى مصر سننجو من مثل هذا الضغط (من الداخل والخارج). وبوادر الأزمة واضحة فى الأفق، وتتمثل حاليا فى حالة شبه الشلل والفوضى والربكة التامة، التى قد تتحول قريبا لحركة نحو الانهيار.