يوم ينزع الناس قلوبهم من أضلعهم، ويخنقون ضمائرهم، ويستبيحون حرمة الغائب والميت والضعيف والغافل، وينهشون - بشهية - قلباً طيباً، ويشفون غليلهم من تشويه أحسن صورة خلقها الله، وينتزعون الأوردة عن الأحياء حتى يفارقوهم إلى الأبد، لا تأخذهم بهم رحمة أو شفقة· يوم ترى الحشرات الطفيلية تتسلّق الجدران العالية، وتسد فتحات الهواء، وتغلق نوافذ البيوت، وتجىء بالعتمة لتفترش المكان كله. ويوم ترى الناس وهم فى عزلة عن الحق، معرضين عنه، مصفقين للباطل، ساكتين عن الخطيئة التى تكاد نارها تلتهم أصابعهم، وتحرق ثيابهم، ولا تطفئ ظلام بواطنهم. ويوم تضع العفيفات لافتات على أبواب الدور كتبت بالثلج: (لحم للبيع وجسد للرصاص).. قل على الدنيا السلام. وحين ترى اللصوص هم الشرفاء وأصحاب الضمائر اليقظة، يقابلون بحفاوة، ويخدمون بطيب خاطر. وحين ينتقل الخائن من الوحل إلى شرف الوطنية، وحين يتحكم الخادم فى سيده، وحين يؤم الناس أفسقهم، ويقودهم أضعفهم، ويعلّمهم أجهلهم، ويحميهم أجبنهم، ويرفع راية النصر من كان فى المخبأ، ويتوارى من سد الطريق بجسده فى وجه الأعداء، ويوم يتحول المرتعدون إلى فرسان وأبطال، يزفون إلى منصات الوطن، وتفتح لهم خزائن الأرض، ويمنحون أوسمة من كرابيج يجلدون بها أصحاب العيون الهامسة والأصابع الرافضة.. قل على الدنيا السلام وعندما يجد عالم عظيم قدره فى يدى مستهتر، ويفحص الأطباء مرضاهم بعد الموت، ويبنى المهندسون بيوتا فى الرمال، ويضاجع من كاد يكون رسولا تلميذاته غير مكرهات، ويذبح الأب أبناءه لراحتهم، ويذهب العارفون إلى العرافين، ويترك مفكر كبير مصيره وما شيد عقله فى يد موظف جاهل وغبى، وعندما تتيبس الأجساد من الظمأ فى وطن ترقد المياه العذبة فى بطنه، وتجرى فى شرايينه المياه المقدسة.. قل على الدنيا السلام وعندما تسود المكان الطاهر أرواح شريرة، وتقيم العفاريت فى العقول المريضة، ويمشى الزعيم كأنه شبح، ويتكلم كأنه إله، ويحصد الناس ما لم تزرعه أيديهم، وعندما يعتلى ضعفاء النفوس وعديمو الموهبة والخارجون على القانون منصات الوعظ، ويخبئ الرجال الشرفاء وجوههم من النساء حين يمشين نهارا فى الشوارع.. قل على الدنيا السلام ويوم تضع كل صاحبة فضيحة فضيحتها كقلادة على صدرها، تطوف بها على العيان، فيصفقون لها ويرفعونها مقاماً عالياً· ويوم ترى الناس يضعون الغشاوة على عيونهم كأنهم لا يبصرون وما هم كذلك، وإنما يريدون العمى حتى لا تنظر عيونهم إلى الحق وتصمت كالشياطين الخرساء· يوم يموت الناس من الجوع فى بلاد تحترق فيها سنابل القمح، وتأكل الكلاب طعامها بشهية طيبة، وتفرغ مخازن الغلال لتصبح خزائن لمال اللصوص. يوم ترى الفقراء هم الأكثرية فى وطن يجرى فيه نهر عظيم ويحفه بحران، وكان يوما ملاذ المضارين من القحط والسنوات العجاف·· يوم يسرق السارق، ويقتل القاتل، ويُدفن القانون، والحياة تسير على وتيرتها. يوم لا يجد الناس شيئاً يبيعونه ليعيشوا غير ضمائرهم، وحين يبيعونها يكتشفون أنها لا تساوى مثقال ملء معدة. يوم ينام الناس ببطون خاوية، ويستيقظون فى غرف لا تدخلها الشمس، ويطاردهم حملة الهراوات، ويلقون ببعضهم فى غياهب النسيان، ويقتلون أبناءهم، ويستحلون أعراضهم، ومع ذلك لا يفكرون سوى فى يوم آخر من الذل. يومها قُل: على الدنيا السلام.