من قهرى أكتب، من غيظى وكمدى، من حزنى على بلادى، من غضبى على نفسى، أنا الذى لم أفهم ما فهمه غيرى بالفطرة. كنت أتساءل: لماذا يستميتون من أجل السلطة، والقوة والنفوذ، والمعارف والعلاقات؟ كنت أستغرب: لماذا يهدر الإنسان فرصته الوحيدة فى الالتحام بالكون والارتماء فى أحضان الطبيعة؟. أرثى لهم وأنا الأحق بالرثاء!. لا أسمح لشىء أن يعكر صفوى، أو يكدر سعادتى، أو يمنعنى أن أذوب فى الهواء. أرمق الزهرة فأصبح زهرة. وألمس الشجرة فأصبح غصناً. وأتأمل النجوم فأجدنى هناك!. أرحل مع أشعة القمر، وأتردد بين الأرض والسماء، مستغرقاً فى عالمى الوهمى، سابحاً فى بحور نغم، متمختراً فى دروب لحن شرقى، تبعثرنى أنغام ، وتعيد تشكيلى أنغام، وتتلألأ فى روحى نجوم، كلها أشرقت من أجلى، وأقمار لم تبزغ إلا فى سمائى. بأمانة كنت أتنازل عن أى نفع يجلب معه وجع الدماغ. لا أحمل معى بطاقات تعارف لأنى لا أريد التعارف، وأتجنب المعارف الجدد مكتفياً بصداقاتى القديمة. كنت سحابة عابرة، غيمة ممطرة، طائراً لا شجرة. لم أفهم لماذا أمد جذورى فى الأرض وقد أوشكت أن أغادر الأرض!. كنت مقتنعاً أن الحياة قصيرة، والكبرياء مضحك، والنفوذ مستعار!. لم أفهم الناس ولم يفهمونى ، وبالتالى لم أدرك أن حتى أبسط الأشياء صارت تحتاج إلى واسطة أو سلطة أو نفوذ!.. وإذا كنت لا تصدقنى فاسمع هذه الحكاية السخيفة التى لا تحدث إلا فى بلاد كمصر أو بلاد الواق الواق: فى كل مساء بعد فراغى من عملى اعتدت الذهاب إلى النادى الوحيد الموجود فى مدينتى البائسة. مثلكم جميعاً لا أستطيع الانتقال من جدران إلى جدران دون أن أشعر بالاختناق. فى معظم الأحيان كنت أجلس وحدى سعيدا بالعزلة، مستمتعاً بالمساحات الخضراء. وأحيانا كنت أكتب مقالاتى على جهاز الكمبيوتر المحمول الذى أحمله (اللاب توب). منذ عدة شهور كنت أضع الفيشة كالمعتاد حين صعقتنى الكهرباء وانطلق شرر مخيف. لبرهة ظللت أتحسس جسدى ولا أصدق أننى ما زلت حياً، وبسرعة اتصلت بمسؤول العلاقات العامة (أستاذ ياسر) وطلبت منه تركيب فيشة جديدة خصوصا أن الأطفال يتواثبون فى نفس الغرفة بما يشكل خطراً جسيماً على الجميع. الرجل أبدى انزعاجاً حقيقياً وأرسل رجلاً فحص كل شىء بسرعة، ثم أكد لى أن المختص سيأتى فى الصباح التالى ليغير الفيشة بواحدة سليمة لا تصعقك بالكهرباء. ومنذ ذلك الحين ، ولمدة ستة شهور، صار بروجرام حياتى اليومى أن أغامر بحياتى لوضع السلك فى الفيشة فيتناثر الشرر، فأتصل بالأستاذ ياسر راجياً متوسلاً، أو أتربص به فى الذهاب والإياب من أجل تغيير فيشة الكهرباء الأسطورية. وأخيرا بعد ستة شهور من التوسل والرجاء فقدت أعصابى، وانهمر غضبى فى الهاتف: هل يستحق تغيير فيشة أن أكرس له حياتى أو يصبح قضية رأى عام! أم المطلوب أن يسقط قتيل من الأطفال أولاً حتى تتحركوا؟. رد فى غضب مماثل: كلم مدير النادى، أنا لست مسؤولاً عن هذه الأشياء!. فاتصلت بالفعل بأستاذ وفيق متسائلاً: هل تركيب فيشة يحتاج لنشر التماس فى جريدة الأهرام؟! ضحك الرجل فى أريحية حقيقية، وقد راقت له الدعابة، ثم أكد لى أنه لا يعرف شيئاً عن هذه الفيشة، لكنه يؤكد أننى سأجد فيشة كبيرة متينة حلوة ( قالها وكأنه يعدنى بقطعة شيكولاته ) ثم أنهى الاتصال. حينما صدق ظنى فى اليوم التالى (وحتى لحظة كتابة هذا المقال) أدركت على الفور أصل المشكلة التى يعرفها كل الناس بالسليقة وأشرت إليها فى بداية المقال. أنا مجرد أستاذ جامعة لا يملك سلطة أو واسطة أو نفوذاً، وبالتالى فلا يوجد لديهم أى مبرر للاهتمام بكلامى وتنفيذ أتفه الأشياء حتى لو كان فى بساطة وخطورة فيشة كهرباء. ولو كنت ضابطاً أو قاضياً أو حتى عضو مجلس محلى لتمت الاستجابة لرغبتى فى الحال. والشىء الذى يضايقنى أكثر من أى شىء آخر أن طفل الثلاث سنوات - الذى يريد أن يصبح ضابطاً حين يكبر - تبين أنه أكثر منى فهماً للحياة!!. لذلك فنصيحتى المخلصة لكل أسرة أن تخطط ليكون بين أبنائها مسؤول كبير أو عضو مجلس شعب على الأقل تحسباً لأشياء كثيرة، فى مقدمتها تغيير فيشة كهرباء.