أكتوبر 1947: اليوم افتتاح الدراسة وبدء عام جديد فى مدرستى العباسية الابتدائية الأميرية للبنات. احتفلت منذ شهرين بعيد ميلادى العاشر. لقد أصبحت كبيرة ويجب أن أتحمل مسؤولية هذه السنة الدراسية الصعبة، سنة ثالثة ابتدائى. سندرس اللغة الإنجليزية لأول مرة، وسنأخذ دروسا صعبة فى الحساب لكى نستعد العام المقبل لشهادة الابتدائية، وسيسمحون لنا باستخدام القلم الأبنوس، وهو يجعل الخط جميلا ولا تتسخ الأيدى من الحبر، كما هو الحال مع هذه الريشة، ويمكن أن نكتب به العربى والإنجليزى من دون أن نغير السن. هذا القلم الجديد كله مميزات، لكن مدرس الخط العربى لن يسمح لنا باستعماله. إنه يقول: لكى يتحسن خطك وتتعلم فعلا كيف تكتب الحروف لا بد من استعمال الريشة. وهكذا لابد أن أحتفظ بريشة سنة ثانية وأشترى سنا عربية لحصة الخط العربى وسنا إنجليزية لحصة الخط الإنجليزى وأحمل معى زجاجة حبر أسود. الحبر الأزرق ممنوع. نوفمبر 1947: ضاع منى اليوم قلمى الأبنوس الغالى. بكيت لماما لكى تشترى لى غيره. رفضت وقالت لن أشترى لك كل يوم قلما بثلاثين قرشا ثمن ثلاثة أرطال من اللحم. كان يجب أن أحافظ على كنزى الغالي، فثلاثون قرشا ليست مبلغا سهلا. لابد أن أحرم نفسى من رحلة حديقة الحيوان وأقتصد لأمى الخمسة قروش، وكذلك رحلة الأهرامات وأقتصد العشرة قروش، حتى أستطيع أن أعوض الثمن الباهظ لقلمى العزيز. الحمد لله أنه أرخص الأنواع، فقلم إخوتى بعشر رحلات إلى الهرم، أى جنيه كامل. ديسمبر 1947: البرد شديد اليوم. تمنيت أن تنتهى الحصة الثالثة سريعا حتى تأتى الفسحة وأشرب الكاكاو باللبن. فى روضة الأطفال كانوا يقدمون لنا مع الكاكاو باللبن بسكوتا جميلا بالسمسم. الحقيقة أن سنوات الروضة لا تعوض. كانوا يقدمون لنا فى الفسحة الصغيرة الكاكاو باللبن والبسكوت، وفى فسحة الغداء كنا نأكل الأرز باللحم المفروم. للآن لم أذق مثل هذا الأرز اللذيذ، ورغم أننى كنت لا أحب الكوسة إلا أنهم كانوا يصنعونها بطريقة مدهشة تنسينى تماما أنها كوسة. وكانت الفاكهة برتقالا أو يوسفيا أو موزا أو تينا. ذات مرة ظلوا أسبوعا يقدمون لنا فاكهة التين فقط، ولأنى أحب التين لم ألحظ ذلك حتى نبهتنى الطفلة التى بجوارى قائلة: إيه ده؟ كل يوم تنتين تنتين تنتين، فتصورت أنها تقصد صوت الجرس كل يوم: تن تن تن، تن تن تن، فقلت لها: طبعا لازم الجرس يدق كل يوم و لكل حصة. ورغم أن روضة الأطفال التى قضيت بها دراستى للروضة كانت مدرسة حلوة إلا أننى كنت دائما أتمنى لو كنت بروضة أطفال كوبرى القبة بالذات أو قصر الدوبارة، السبب أن روضة قصر الدوبارة وكوبرى القبة كانتا أشهر روضتين للأطفال، لأنهما كانتا من نجوم برامج حديث الأطفال بالإذاعة، ومازلت أذكر أغنية خفيفة الدم لأطفال روضة كوبرى القبة: «يوم الجمعة يا يوم الجمعة/ حلو ونادى وشمسك طالعة/ بنبطل ما نروحش الروضة/ وبنلبس فساتينا المودا/ وتفوت ست أيام نستنى/ يوم الجمعة يا يوم الجمعة». دائما فى حصة الموسيقى ونحن نغنى: «لا تخافى يا حمامة/ والقطى الحب الكثير/ ثم عودى بالسلامة/ واشكرى الله القدير»، أحلم أننا فى برنامج حديث الأطفال وبابا شارو يقول: «سمعتم دلوقت غناء إخوتكم أطفال روضة العباسية». كيف لم يعرف بابا شارو أن روضة العباسية مدرسة مهمة وأن التى تعلمنا فيها أبلة إحسان أبوزوبع مؤلفة كتاب «قراءة الأطفال»، الذى يتعلم فيه كل تلاميذ الروضة من سنة أولى وعمرهم خمس سنوات حتى سنة التخرج حين يتركون الروضة وعمرهم سبع سنوات لينتقلوا إلى المدرسة الابتدائية؟ يناير 1948: عرفت اليوم أن الكاكاو باللبن والبسكوت أبوسمسم والأرز باللحم المفروم ليست أهم شىء فى الوجود. سمعت إخوتى الكبار بالجامعة يتحدثون ويقولون إن مجانية التعليم فى مدارسنا الحكومية شىء ضرورى ومهم. لا بد أن يذهب كل طفل إلى المدرسة. لابد أن يقدم العلم للجميع. طبعا العلم لجميع الأطفال أهم من الكاكاو باللبن لبعض الأطفال .