الحاجة أُم الاختراع.. قاعدة عرفها العالم ويطبقها المصريون على كثير من الأشياء، من بينها «لقمة العيش»، فالبعض يقبل بالعمل فى مهنة تناله منها إهانات كثيرة رغم تعليمه العالى. بدلا من «قعدة البيت والقهاوى». وآخرون يعملون من البيت لزيادة دخلهم وتجنب زحام الشوارع أو الاستمرار فى رعاية الأطفال وعدم الابتعاد عنهم. بينما يفضل البعض الآخر أن يعمل «7 صنايع» حتى لا يضيع منهم البخت. لم يتوقع رضا محمد «37 عاما» أن تنتهى طموحاته المهنية إلى مجرد «طيار»، فأحلامه وطموحاته كانت تتعدى تلك المهنة بمراحل. كان يحلم بمستقبل أفضل له ولأبنائه، ولكن الحياة لم تعطه سوى «لقب كبير» لمهنة كما يراها «ضئيلة الشأن»، فهو الآن يعمل: طيار ديليفرى. لا يستمتع «رضا» فى عمله سوى بلقبه «الفخم» كما يصفه، ويحكى بعفوية شديدة الجانب الآخر من اللقب الذى يحمل قدراً كبيراً من المعاناة والمخاطرة: «لم أكن أنوى أن أعمل طيار ديليفرى، خاصة أننى حاصل على دبلوم صنايع قسم زخرفة، يعنى معايا شهادة كويسة، ولكن ظروف الحياة وعدم وجود شغل فى البلد أجبرنى على التطوع فى الداخلية واشتغل شاويش.. وبصراحة ما استحملتش الظلم والضغط.. واستقلت». ويواصل حكيه قائلا: «الحكاية بدأت لما قريت إعلان فى (الوسيط) بيقول إن فيه مطعم وجبات سريعة محتاج طيارين، وقررت أن أقدم للوظيفة.. ولحسن حظى اتقبلت، ولكن المشكلة اللى قابلتنى إنى لازم يكون معايا رخصة سواقة موتوسيكل، والمطعم لما شافنى فعلا محتاج الوظيفة طلعلى هو الرخصة واشتغلت». المرتب الذى يحصل عليه «رضا» من عمله ك«طيار ديليفرى» لا يناسب متطلبات حياته اليومية رغم بساطتها، أو كما يقول: «600 جنيه يعملوا إيه فى الزمن المهبب ده». هو يعتمد على «التبس» كدخل مساعد وأساسى بجانب عمله «لولا إن الشغلانة دى فيها تيبس مكنش الواحد رضى بيها، وحتى البقشيش يوم فوق ويوم تحت، على حسب الزبون اللى رايحين له». ويؤكد رضا أن عمله بمنطقة راقية كمدينة نصر لا يؤثر كثيرا فى مقدار البقشيش الذى يحصل عليه عند توصيل الطلبات «فيه زباين كتير بياخدوا الاوردر ويقفلوا الباب فى وشنا من غير ولا مليم، وفيه زباين تانية بيسيبوا نص جنيه وكأننا بنشحت منهم». الزبون المفضل لدى رضا هو من يترك بقشيشا يتراوح بين ثلاثة وخمسة جنيهات «علشان المشوار يجيب همه». 10 ساعات يوميا يقضيها «رضا» فى خدمة مواطنين لا يعرفهم، يبدأ عمله فى العاشرة صباحا، ولا ينتهى منه قبل الثامنة، ويقول: «بنوصل طلبين وتلاتة فى نفس الوقت، وأيام المواسم زى رمضان كنا بنوصل فيها 7 و8 أوردرات فى المرة الواحدة، وفى الآخر ساعات كتير الزبون يقابلنا بقرف علشان اتأخرنا عليه شوية ويرفض ياخد الأوردر». يخشى «رضا» كثيرا من تلك النوعية من الزبائن التى ترفض استلام طلبها عند التأخير، لأن المطعم الذى يعمل به غالبا ما يحمله ثمنه إذا ثبت أن هناك تأخيرا من جانبه، وهو ما يبرره بقوله: «وأنا بإيدى إيه.. الشوارع دايما زحمة». الظروف النفسية السيئة التى يمر بها «رضا» بسبب طلاقه من زوجته، وابتعاد ابنته أمر لا يجب أن يؤثر كثيرا أو حتى يظهر أثناء ساعات عمله العشر «لازم نقابل الزبون بابتسامة لطيفة ونرد بأدب حتى لو كان غلطان.. لكن اللى بيضايقنى إن مفيش حد بيقدر تعبنا أو ظروفنا». لا يحب «رضا» عمله كثيرا ولا يراه ثابتا، ولكنه العمل الوحيد الذى يناسب ظروف معيشته الحالية، وهو هنا مضطر للعمل بمبدأ «حب ما تعمل.. حتى تعمل ما تحب»، وأكثر ما يخشاه أن تمر سنوات حياته دون أن يظل يحب ما يعمل.. ولا يعمل - أبدا - ما يحب. ومنه إلى تامر رشاد - 29 عاما- الذى لم يجد عملا بمؤهله «ثانوية عامة» سوى «طيار ديليفرى». يقول: «من أول ما خلصت تعليم ملقتش حاجة بعرف أعملها غير توصيل الطلبات، أول حاجة اشتغلت ديليفرى فى صيدلية، لكن ما استريحتش، المرتب كان قليل، ده غير إن زبون الصيدلية بيبقى كفاية عليه أوى تمن الدوا اللى بيدفعه، وغالبا لا يدفع بقشيش». وانتقل تامر بعد ذلك للعمل ك«طيار» أيضا لكن فى أحد محال «السوبر ماركت» الكبيرة، ثم انتقل مؤخرا للعمل فى مطعم للوجبات السريعة. «هو صحيح المرتب مش كبير، لكن كفاية إنهم مأمنين عليا ضد الحوادث، ودى كانت أهم نقطة بالنسبة لى».. التأثر بدا واضحا على «تامر» وهو يتذكر أحد زملائه الذى توفى فى حادث طريق، بعد أن اصطدم بأتوبيس نقل عام، ولم يكن مؤمنا عليه، فخسر حياته، وأسرته «تلطمت» - على حد قوله - بعد وفاته ولم تجد لها مصدر رزق. شريف السيد يجسد شكلا آخر من طيارى الديليفرى، فسنوات عمره القليلة التى لا تتعدى 12 عاما، تجعل قيادته لموتوسيكل صعبة، فاستبدله ب«عجلة» تناسب جسده الصغير، وهو يعمل لدى والده ال«فرارجى»، ويوصل يوميا الدجاج لمنازل المناطق المحيطة فقط. «أبويا مش بيخلينى أروح لحتت بعيدة، أنا باوصل الطلبات للعمارات اللى جنبنا بس علشان ما اتوهش». ويبرر «شريف» عمله فى هذه السن الصغيرة بقوله «أبويا عايزنى أبقى راجل وأتحمل مسؤولية علشان أشيل المحل من بعده». رغم عمله فى التوصيل، إلا أن والده يصر على إلحاقه بالمدرسة ليتعلم، ومع ذلك لا يبدى حماسة كبيرة للتعليم. يقول «شريف»: «هما اللى اتعلموا عملوا إيه.. أنا بشوف ناس معاهم شهادات ومش لاقيين شغل، إنما أنا أبويا معهوش شهادة وعنده محل ملك، وأنا من غير شهادة بعرف أجيب فلوس، وكفاية عليا بقشيش الزباين». على عبدالرحمن - 32 عاما - يعمل فى الأساس «فنى بمصنع غزل ونسيج»، ولكن بسبب عدم انتظام المرتب اضطر أن يبحث عن عمل آخر، حتى وجد ضالته فى العمل ب«ديليفرى» أحد المطاعم، بعد أن فشلت كل محاولاته فى الحصول على شغل ثابت، ويقول: «شغل النسيج بيجيب فلوس كتير، خاصة فى أيام المواسم زى رمضان والأعياد، ويوميتى كانت بتوصل ل 25 جنيه فى اليوم، لكننا كنا بنشتغل يوم آه و10 لأ». عندما يسأله أحد عن مهنته يقول بكل فخر «فنى فى مصنع غزل ونسيج»، ولا يذكر عمله ك«طيار ديليفرى». «أصل أنا مش بعتبره شغل، هو مجرد أكل عيش علشان أعرف أصرف على مراتى وعيالى».. الحلم الذى يتمناه «على» يوميا أن تصبح شوارع القاهرة أقل ازدحاما، حتى يستطيع أن يقوم بتوصيل المزيد من الطلبات فى أقل وقت ممكن، كما أنه يكافح ويكدح فى عمله حتى يستطيع أن يوفر لأسرته مستقبلا أفضل، ويحمى ابنه «محمد» من أن يأتى اليوم الذى يعمل مثله «طيار ديليفرى» دون تأمين على حياته، أو مرتب ثابت يكفيه.