لم أصدق! أقسم أننى حتى الآن لم أصدق! عقلى الباطن يأبى الاعتراف بالحقيقة. يُسميها علماء النفس «ميكانيزمات الدفاع». سأشرحها لك يوما يا عزيزتى فى الشرفة الواسعة، حينما نجلس معا ساعات طويلة، الشارع تحتنا، والسماء فوقنا، وهواء الليل يُطيّرنا، وثمرة برتقال نتقاسمها، مثلما اعتدنا فى الأيام الخالية. أيامنا الجميلة، بعد أن فرغ البيت إلا منى ومنك. ماتت أمنا، ثم والدنا الذى تقاسمنا رعايته. وتزوجت شقيقاتنا تباعا فلم يبق إلا أنا وأنت. قبل زواجك، وانتقالك إلى بيتك الجديد كنت أترقب فى قلق هذا الذى سيأخذك منى. جزء داخلى يتمنى زواجك ويرجو سعادتك، وجزء داخلى يهاب زواجك وابتعادك عنى. وأنت تقرئين مخاوفى على وجهى وتضحكين منى: يعنى شايف العرسان واقفين على الباب؟. وأغضب أنا وأجرى لأحضر المرآة، وأقول لك: انظرى كم أنت جميلة!. جميلة.. ولكنه ليس الجمال المصبوغ الذى يثنى الأعناق، الجمال الداخلى الذى يحتاج - كى تراه- أن تكون جديرا بأن تراه!. سأحدثك بمجرد أن نلتقى عن « ميكانيزمات الدفاع»، ربما تجدين فيها ما يفسر أحوالى بعد الذى حدث. أعرف أنك ستنصتين لى فى اهتمام. أعرف أنك ستنظرين نحوى فى إعجاب. أعرف أنك ستوافقين على كل آرائى. ألستُ ابنك الذى لم تنجبيه؟، وشقيقك الصغير المدهش الذى دللته صغيرا وصادقته كبيرا؟ أليست كل كرة حمراء تجرى فى دمك تحمل شكلى، وتعرف اسمى، وتفهمنى من نظرة واحدة. سأقول لك ما هو آت: - «حينما تواجه النفس موقفا رهيبا كالذى حدث، موقفا تصبح الحياة بعده مستحيلة، أو مؤلمة بشكل لا يمكن احتماله، أو التعايش معه، فإن العقل- دون أن يدرى- ينكره. الجزء الرحيم فى نفوسنا يأبى التصديق. ومن ثم يعتبره لم يحدث أصلا. وهكذا تنتهى المشكلة ببساطة، وتصبح الحياة ممكنة، هذه الحياة الرهيبة الغامضة التى لا تعرف ماذا تخفى لك غدا». هكذا يا عزيزتى استطعت أن أُكمل الحياة، وأعيش خمس سنوات أخرى. لاحظى أننى لم أكتب عنك كلمة واحدة، أنا الذى كتبت ملايين الكلمات!. لأننى ببساطة لو كتبت فهذا معناه أننى صدّقت، ولو صدّقت فلن أحيا بعدها دقيقة واحدة. سأقتحم بيتنا القديم وأرمى نفسى من شرفته. أو أهيم فى الشوارع كالممسوس. أو أنكفئ صارخا حتى تسمعنى فى جوف الأرض الكائنات الحبيسة. ولكن هذا لم يحدث لسبب بسيط: هو أننى أنكر أصلا حدوث أى شىء!!. حينما كنا نتلقى العزاء فى بيتنا الريفى كان أصدقائى يرمقوننى فى قلق، ويتخوفون أنى قد أقوم بحماقة. أما أنا فكنت شاردا فى تأمل ثمرة البرتقال التى أثقلت غصن الشجرة فى آخر الفناء. وأفكر فى شىء واحد: متى يذهب هؤلاء المتطفلون لأقطفها وأحملها إليك؟. أعرف كم تحبين البرتقال المقطوف من الشجرة مباشرة، أعرف حبك للأشياء الأصيلة. خمس سنوات كاملة، وأنا أقول: سأذهب إليك فى الخميس المقبل. كل ما هناك أن هذا الخميس لا يأتى أبدا، فأنت تعرفين مشاغلى، وتعرفين أن بيتك بعيد، وتعرفين أننى لم أفتقدك، أو أشعر بشوق إليك، فالشوق لا يكون إلا لغائب. وأنت معى طيلة الوقت، كنز من الذكريات واللحظات الحميمة. المهم ولكيلا أطيل عليك، انتظرينى الخميس المقبل. سآتى وجيبى منتفخ بثمرة برتقال نتقاسمها معا. وإذا لم أجئ هذه المرة فهذا ليس معناه- كما يزعمون- أنك قد متِ، ولكن معناه فقط أننى سآتى حتما، ولكن فى خميس آخر!.