لا أحد يجادل فى أن إنجلترا هى أعرق ديمقراطية فى العالم الغربى. ولهذا فإن البرلمان الإنجليزى يعتبر المؤسسة الأعرق على الإطلاق. ومع ذلك فإن صحيفة «ديلى تليجراف» فجّرت فضيحة من الوزن الثقيل، حين كشفت النقاب منذ بضعة أيام عن تحايل عدد من النواب للحصول على مبالغ كبيرة من المال نظير نفقات وهمية. ولم يجد التقرير الصحفى الخطير آذاناً صمّاء، بل تم تحويل الموضوع على الفور إلى المراجع المستقل، السير توماس ليج، الذى دفع القضية إلى أبعاد أكبر من الصورة المروعة التى رسمتها «ديلى تليجراف»، حيث توصل بعد بحث وتمحيص إلى أن إساءة استخدام النظام المعمول به فى البرلمان أكبر من أن تكون مجرد أعداد محدودة من «ثمار التفاح الفاسد» التى تم توجيه اللوم إليها عند تفجير الفضيحة، حيث تبين أن أكثر من نصف النواب المحترمين قد ثبت عليهم الجرم المشهود، ألا وهو التحايل للحصول على نفقات أكبر من الحقيقة لنشاطهم البرلمانى. وبناء على هذا التقرير سيتم إجبار 366 نائباً على أن يرد كل منهم فى المتوسط ثلاثة آلاف جنيه إسترلينى، ليصل إجمالى المبالغ المستردة إلى أكثر من مليون جنيه إسترلينى. ولم تقتصر ردود فعل تقرير المراجع العام توماس ليج على مطالبة النواب برد المبالغ المشار إليها، بل إن زملاءهم- سواء من الحزب الحاكم أو من الأحزاب المعارضة- قالوا بأنه أصبحت هناك حاجة ملحة لإجراء انتخابات عامة اليوم قبل الغد للتخلص من عشرات النواب المتورطين فى هذه الممارسة القذرة. وأفادت مراكز استطلاع الرأى إلى أنه أصبح من المتوقع تغيير أكثر من نصف العدد الإجمالى لأعضاء البرلمان، البالغ 646 عضوا نتيجة امتعاض الرأى العام بعد الكشف عن هذه الفضيحة. وأعرب نيك كليج، الزعيم الديمقراطى الليبرالى، عن أمله فى أن يكون هذا التقرير هو «الفصل الختامى» لهذا «البرلمان العفن». بينما قال مكتب المدعى العام إنه سيعلن خلال ساعات ما إذا كان سيوجه إلى بعض هؤلاء النواب اللصوص تهمة التزوير. فى الوقت ذاته لم يكتف السير «ليج» بمطالبة النواب المشار إليهم برد الأموال التى حصلوا عليها بالتدليس، وإنما صبَّ هجومه أيضاً على نظام صرف النفقات البرلمانية برمته، واصفاً إياه بالضبابية والافتقار إلى الشفافية. أما المتحدث باسم رئيس الوزراء جوردون براون فقد اعتبر تقرير «ليج» خطوة للأمام «مهمة للغاية»، وأن رئيس الوزراء قال من البداية إن هذا تحقيق مهم جدا وإنه يساند التقرير بقوة ويحث النواب على رد الأموال التى حصلوا عليها دون وجه حق بأقصى سرعة ممكنة. ومن الجانب الآخر اعترف ديفيد كاميرون، زعيم حزب المحافظين، بأن النظام كان به خلل منذ البداية، وأنه كان أول من طالب النواب برد الأموال حتى لو كانوا قد حصلوا عليها وفق القواعد المعمول بها، لأن هذه القواعد ذاتها معيبة. وفى هذا السياق تصاعدت ضغوط الرأى العام والقوى السياسية المختلفة على رئيس الوزراء من أجل انتخابات عامة بعد أن أثبت تقرير «ليج» أن «البرلمان قد أصبح عفناً حتى النخاع» على حد تعبير جون ويك، الذى كان مهندس عملية تسريب المعلومات عن هذا الملف المخجل. ■ ■ ■ ومن المعلومات والتصريحات السابقة.. يتولد عدد من الملحوظات: أولاً: أن الفساد موجود فى كل مكان ويمكن أن يصل إلى عقر دار أعرق برلمان فى العالم. ثانياً: أن الدول الديمقراطية إن لم تكن محصّنة من الفساد، فإنها تمتلك من الآليات ما يسمح لها بمواجهة هذا الفساد وتعقبه. ثالثاً: أن البرلمانات الحية لا تتذرع بأنها «سيدة قرارها»، بل إنها تحترم الصحافة وتأخذ تقاريرها مأخذ الجد وتحيل هذه التقارير إلى لجان تقصى حقائق ولجان تحقيق محترمة، تكون كلمتها مسموعة عندما تتأكد من صحة هذه التقارير الصحفية. رابعاً: أن الحزب الحاكم لا يحتمى بأغلبيته العددية للإفلات من مثل هذه الفضائح، بل إن الجميع- معارضة وحكومة- يتسابقون لكشف الحقيقة وعقاب المخطئ. خامساً: أن العقاب فى مثل هذه الحالات ليس بيروقراطياً أو تأديبياً فقط، بل ليس جنائياً أيضاً فحسب، وإنما هو سياسى كذلك، ولهذا رأينا أن الرأى العام لم يكتف بالمطالبة برد الأموال المسروقة وإنما طالب أيضاً بإجراء انتخابات لتطهير البرلمان من هذا «العفن». سادساً: أن العفن الموجود فى مجلس العموم البريطانى، الذى استوجب كل هذا العقاب التأديبى والجنائى والسياسى، لا يزيد على أن يكون مثقال ذرة من العفن الذى يعشش فى كثير من برلمانات العالم العربى الحافلة بنواب سميحة ونواب القمار والعبَّارات الغارقة والقروض المنهوبة من البنوك والدماء الملوثة ونواب فتيات الليل وراقصات الكباريهات وأشباه الفنانات. ومع ذلك فان «الإنجليز حالهم يغيظ»، ورغم أنهم مشهورون- لدينا- بأنهم من أصحاب الدم البارد فإننا وجدنا أن الدماء الباردة تغلى فى عروقهم ولا يهدأ لهم بال قبل أن يزيلوا السلبيات التى يكتشفونها مهما كانت طفيفة ب«معاييرنا» طبعاً. بينما برلمانات العرب تغط فى سبات عميق ولا تحرك ساكنا إزاء أخطر الجرائم التى تقع تحت قبتها وعلى أيدى البعض من نوابها. وإذا اضطرتها الظروف لفتح التحقيق فى فضيحة ما فإنها تعمد إلى تسطيحها وتسخيفها وابتذالها إلى أقصى حد بينما نجد أصحاب الدم البارد من الإنجليز يتوقفون أمام هذه الفعلة «التافهة»- بمقاييسنا- من جانب عدد يزيد أو يقل من نوابهم فى مجلس العموم ويضعونها فى المكان الذى تستحقه من الاهتمام، ويقولون- مثلما فعلت «ديلى تليجراف» فى مقالها الافتتاحى يوم الجمعة الماضى- إن هذه الفعلة «لم تكشف فقط جشع وطمع وعدم أمانة العديد من النواب البرلمانيين، بل إنها ألحقت ضرراً بالغاً بديمقراطيتنا لا يمكن أن يصلحه أو يمحوه شىء أقل من إجراء انتخابات لبرلمان جديد». ■ ■ ■ هذه المقارنات لا نسوقها لجلد الذات أو للحط من شأننا، وإنما نسلط عليها الضوء من أجل التدليل على أهمية الديمقراطية «الحقيقية»، وعلى فاعليتها فى تقليم أظافر الفساد ومواجهة مختلف السلبيات.. وهذا هو سر تقدمهم.. مثلما هو سر انحطاطنا وتأخرنا. وبداية طريق التخلص من هذه «اللعنة» هى إعادة الاعتبار إلى صناديق الاقتراع، وخلق توافق مجتمعى- مفقود حاليا- حول قواعد نزيهة للعب فى ساحة الديمقراطية لا يكون فيها الخصم هو الحكم ولا يكون فيها القول الفصل للبلطجة أو شراء الأصوات بقوة المال أو التلاعب بالعواطف الدينية للملايين الفقيرة والأمية. وقتها.. سنتوقف عن الانبهار بما يحدث فى مجلس العموم البريطانى لأننا فى ذلك الحين لن نتندر على «برلمان موافقون» أو على برلمان يستوفى الشكل والاسم ولكنه منزوع المضمون.. شأنه شأن باقى المؤسسات التى تحمل أسماء رنانة لكنها فارغة المحتوى، لأن وظيفتها الحقيقية هى استكمال «ديكور» الدولة الحديثة، بينما هى فى الحقيقة ترسخ أسوأ ما فى القبيلة.. حيث لا وجود ل«مواطنين» وإنما مجرد «رعايا» يتواطأون مع «العفن» ويذعنون له ولا يجرؤ واحد منهم أن يسير على درب الأمير هاملت الذى يصرخ بأعلى صوته: «إن هناك فى الدنمارك- شيئاً عفناً». [email protected]