أعددت أسلحتى لكتابة مقال عدوانى ضد سياسات النظام، وحشدت نخبة من العبارات التهكمية والانتقادية الساخنة للمانشيتات المضحكة التى تحدثت عن فتوحات الرئيس مبارك فى محور صفط اللبن، لكن سهم الإحباط وجد طريقه إلى «كعب أخيل»، ولم أشعر بأى مجد فى التهكم على نظام متهافت بطبعه، ولا انتقاد ممارسات باتت طقساً مألوفاً فى مجتمع بليد، فانكفأت على ذاتى مستعيداً بعض كلماتى القديمة، وكأننى أقول لكم ولنفسى: لا جديد.. فقد أنفقت عمرى فى شراء الكتب، وجمع الأوراق جرياً وراء حلم لا أعرفه، ومجد لا أقصده، فلم أجن سوى أكوام من «القمامة»، أرهقنى نقلها من مكان إلى مكان حيث ما أرحل. الكلمات التى تصورتها يوماً غذاء للعقل، وصقلاً للروح، صارت غذاء مجانياً للحشرات القارضة و«مفارش» بدائية تسألنى عنها الجارة العجوز. هل ثمة شىء ثابت القيمة والمعنى فى هذا العالم؟ بالأمس نظرت- متفحصاً- فى المرآة، فرأيتها بوضوح.. كانت مصقولة، فضية لامعة، تخلو من الوجه، الذى كنت أراه فيها قبل خمسة وعشرين عاماً. لم أشعر بالغربة، قدر ما شعرت بالافتقاد، فأنا لم أنظر إلى مرآتى منذ ربع قرن أو أقل قليلاً، بالرغم من أننى أعيش إلى جوارها ولم أفارقها هل هذه هى «النسبية»؟!!.. ربما. فأنا أعيش فى المكان نفسه، منذ ربع قرن، سافرت إلى مختلف المدن والأماكن، ولم أغادر ذاتى، أمشى فى الشوارع نفسها، منذ ربع قرن، ضجت الشوارع، ولم أضج، أحلم الأحلام نفسها، منذ ربع قرن، انكسرت الأحلام، فقبضت على جمر أحلامى، أتعرف على الأصدقاء أنفسهم، المخادعون منذ ربع قرن، قد يغيرون أسماءهم وهيئاتهم وأساليب خداعهم، لكننى لا أغير أبداً طريقة «انخداعى»، كما لو أننى فى حالة «ريبرتوار» سرمدية على غرار عقاب آلهة الأوليمب لتوأم روحى الخفى «سيزيف». اخترت أن أكون «المرمى» لا الكرة، ولا الهداف اخترت أن أكون الهدف لا الرصاصة، ولا القناص اخترت أن أكون الأرض، لا الهواء ولا السماء اخترت أن أكون أنا هو أنا، لا أنت.. ولا هو ربما لأننى لا أعرف من أنا؟، وأنا لا أحب أن أكون شبه الأشياء، لا أحب أن أكون «معروفاً» و«محفوظاً» و«واضحاً» و«مفهوماً»، لأننى لا أحب - وهذا هو السر الذى أخشى أن أبوح به دوماً، أن أكون «منتهياً». أريد أن أبقى أريد أن أستمر أريد أن أواصل لا المعرفة أرشدتنى إلى سر الخلود، ولا التجربة أثبتت لى «دوام الحال»، الكل يتغير، والثبات عدم. فكيف لى أن أبقى «هنا» على ضفة النهر العظيم.. فى المكان نفسه، تحت ظل الشجرة العتيقة، بمحاذاة الأفق الممتد، فى منتصف المسافة الغامضة بين نعومة الصمت وهسيس الحياة. كيف لى أن أبقى، والنهر يتغير، والأماكن تتبدل، والأشجار تموت محترقة، ومختنقة، والأفق متخم بالأسمنت، والصوت يتأرجح بين نغمة ميتة وعاصفة من الضجيج. أريد أن أبقى أعرف أن أحداً لن يجىء، وأن الأرض سوف تحافظ على دورانها، وأن شمساً سوف تشرق كل صباح، وأن كائنات سوف تولد، وسوف تذهب، وسوف يأتى غيرها ليذهب، ويذهب، ويذهب. لكننى لا أريد أن أذهب.. ثمة شىء لا أعرفه يجعلنى أريد البقاء «هنا».. فى هذه الأرض المليئة بالحشرات والبشر، وسط نزعات الحروب والقتل والأطماع الصغيرة والكبيرة، فى ظل التحولات المذهلة والتغير الحتمى لكل العناصر.. أريد أن أبقى «هنا»، لأراقب ذبول الزهور، وتعفن الجثث، وجفاف الأنهار، وردم البحار، واحتراق الغابات، ودك الجبال، وأكل الرمال.. أريد أن أبقى «هنا» لأشاهد بعينى مصرع آخر طاغية. لكن هل يتركنى الطغاة لأبقى «هنا»؟.. لا أعتقد. [email protected]