فى مجلس الحكماء وعلياء الحكمة أجلس مربعة الذراعين، أستميت فى تقمص دورى، أذهب فى دروب أيامى، أعيد ترتيبها، أزيح خلفا ما كان أمامى، ثم أرسم من حولى دوائر لا تنتهى، كى أنتهى من حيث بدأت، كى أتساءل بهدوء أكان يمكن أن يحدث غير ما حدث؟ أتأمل وجهى فى ظلمته، فى اجتراح ريائى، أفك ذراعىَّ فأسقط معهما إلى الأسفل، إلى البدايات أخاف أن أبدأ سفر النكوص، أخاف أن أرجع، إلى أى مكان تركته وسكننى، إلى أى لحظة عشتها ولم أعشها. هناك.. فى استجداء ما ذهب فى استنطاق المكتوب، أراك كما رأيتك أول مرة.. عبق اللقاء الأول يشدنى من جديد، وقبل أن يتملكنى تماما ستخرجنى دواخلى كى أتذكر كيف أخذت ألقن نفسى ذلك الإحساس الزائف بثقتك وجمودك.. أرى اليوم تكراراتى تلك، كأنما كانت لنفى نقيضها، لنفى انسحاقى أمامك منذ اللحظة الأولى.. محبة تفيض حبا، تفيض غضبا. صوتك الذى مازالت أسمعة، مازال معى، ومازال يصيبنى بالهلع نفسه لأنى أدركت منذ ذلك الوقت أنى سأتبعك باقى عمرى، لكنى تمالكت نفسى وأقيتك بعيدا. آه.. هل من خطيئة أبشع من مخادعة النفس، قط صغير كان ينبش أعماقى مهددا مسيرتى ومصيرى. الآن فقط أرى كيف روضت نفسى كى أزيحه بعيدا عنى، أرى نفسى التى أهلت عليها التراب وأبقيت فقط صورتها؟ سجنتها فى الإطار الثمين الذى سجننى صورة للعقل والتمدن، تحمل صخب الألوان، صخب الزيف والافتعال، بينهما لا تنطوى حقيقتها سوى على الخوف، سوى على الضعف الذى استمت، منذ كنت طفلة لنفضه بعيدا عنى. أخى.. أخى كان الرجل الأول فى حياتى، أحببته وأنا أكتشف اختلافه عنى، وأفتقد ألق وجودى بدونه، لكن الإطار الذى وضعوه داخله هو ما أقصاه فى نفسى بعيدا عن أمكنة المحبة، هو ما جعلنى أؤسس ذاتى بالنفور، لأبقى مرتعا للوحشة والتوحش. بنجاحاتى المتواصلة حصنت نفسى وسيجت دواخلى، وأقمت قانونى الخاص، حكمتى الخاصة: «القرب يعنى أن يكتشف الجميع أن هذا الطاووس الزاهى ليس سوى كومة ريش». وحيدة بقيت متعالية.. حتى على نفسى. خائفة من الرجال ومهووسة بالمعارك. أنصب فخاخى، أدخل إطارى.. جمالى، تأنقى، وروقتى الاستثنائية، كى أحصى الفرائس. أتفنن فى رسم عيونى وتلوين نظرتى كى ترتل عيناى شعرا دون أن ينطق لسانى، كى أستمتع فى اللحظة المناسبة برفض وصد كل من أحبنى، كل من أحب صورتى، وأتقبل نصيبى من الألم، إذلالى لمشاعرى وقمعى إياها إذا ما أفلتت منى وعصتنى، فمالت لأحدهم . أين كان يبدأ الفخ ؟ وأين كانت تنتهى الطريدة فى؟ ذات يوم جئت أنت.. جئت جميلا ومخيفا تكره الصور والإطارات. لا أدرى كيف باغتنى حبك وأنسانى جروحى. دون أن أشعر مزج خضرته بعيونى، وياسمينه بأنفاسى، وطرواته بأسمنت حصونى فلانت. عندئذ أدركت أنها نهايتى، وأنى مندفعة، بلا أمل فى الخلاص، داخل دوائر من الفوضى. مريول المدرسة، فستان السهرة، وعباءة الحكمة، ظلوا يتنازعونى. وقبل أن أتفتت بينهم، تشبثت بالحكمة المزعومة، لن أكون الجاحدة التى تصفع وتركل وتدوس قانون حياتها: «القرب يعنى التهاون».. لا تنسى. «يعنى التهافت».. لا تنسى. «يعنى التماهى والتلاشى». استنفرت كل دفاعاتى الحية والخفية، الخفية عنى أنا نفسى .لم أعرفنى أبدا قوية إلى هذا الحد فأندفع وأدفعك بعيدا دفعة بلا عودة، إلى تلك البلاد البعيدة. لماذا لم أدرك أن للفوضى حكميتها وقيمتها وضروريتها؟ أكنت أصوره لنفسى أخى المميز فى كل شىء لأمقته؟ أتخيله زميلى الذى يستخف بى لأعلن الحرب عليه؟ أكان مثلهم ؟ أم تراه كان صادقا فى حبه لى؟ ثمه لحظه.. ومضة.. كان قريبا منى فاستنشقت هواءه، وحين اقترب أكثر تأملت شعرة بيضاء فى شاربه، وحدقت بعينيه، فرأيته يرسم مجرى بروحى، وشعرت بنفسى أهوى. لفتنى ضبابة كثيفة حيث توقفت عن أن أكون أى شىء، وحيث أصبحت كل شىء فى نفس اللحظة. أريد أن أهرب من هذا التساؤل: كيف فعلت به ما فعلت؟ أكان السبب هو خوفى من أن يكون كغيره من الرجال، يتمسكن وحين يتمكن، حين أصبح فى قبضته، فى قفصه، سيلقى بى جانبا ليصعد ويكتمل غروره، تحاصرنى ظنونى، وتحصرنى فى التقاطع الذى يشطر روحى إلى نصفيها.. إلى أين أذهب منك؟ بل كيف أهرب منى؟ أنا التى تجاهلت يوما رقة روحك واختلاف عنهم وعنى. حمقاء كنت أنا أرى الناس من ثقوب شباك نصبتها حول نفسى، أراهم برأسى المضغوط وعينى الضامرة. ربما كانت متجنية عليك، ربما لو عدت إلى ذلك الوقت، لقاتلت من كانوا يدفعوننى بكيعانهم لأسقط ويرضون غرورهم، لقاتلتهم دون أن أقتل نفسى بفقدك، دون أن أحفر ذلك الثقب بروحى لتذوى بعدك. لكنى أعود مرة أخرى وأقع فى شرك ظنونى: لماذا صدقت لسانى وكذبت حريق أوردتى؟ لماذا استسلمت لعقدى وهو اجسى؟ لماذا طاوعتنى ؟ لماذا ذهبت؟ أصحو وأغفو، أغوص وأطفو، ثم لا ألبث أحملك وطأة تركى خربة بعدك. أحملك حرقة ذلك الظمأ الذى ما عاد يمكن أن يرتوى بعدك. فالآن، بعدما تقدم بى العمر وصار لدى كل شىء يحلم به رجل كان أو امرأة، كل ما يظنون أنى قاتلت لأجله، أرى الإعجاب فى بعض العيون، وأرى الحسد فى عيون أخرى، وأعلم أن هناك من يشفقون علىَّ من وحدتى الفردية، ويجهلون أنه ينبغى عليهم أن يبكوا من أجلى، لخيبتى الأكيدة.. لفقدى حبى. حين بدأت أرقب الخمائر الهرمة تمتزح بلعابى، حين بدأت أرى كم تغيرت، وفاجأنى انطفاء حماسى للقتال، فكرت فى الالتحام بآخر، فكرت فى الزواج، وأدركت بعدما فشلت أى خراب تركته بى، أبحث عنك فى كل آخر، وأعجز عن قبول أية صفة، أى ومضة، أى صوت سوى صوتك، أعجز عن تخيل انتفاض كيانى سوى لرحيقك. أخلع عباءة الحكمة، أزدرى فحولة كلماتها، وقداسة أعرفها، أضرب أخماسا فى أسداس، ثم أجلس زاهدة فى كل شىء.. ساهرة مع الساهرين والحائرين. قصة : عزة رشاد الشرقية مواليد 15/ 9/ 1961 طبيبة بكالوريوس طب وجراحة صدر لها رواية ذاكرة التيه (طبعتان) مجموعة قصصية أحب نورا.. أكره نورهان مجموعة قصصية نصف ضوء الترجمة: ترجمت قصص من مجموعة: أحب نورا.. أكره نورهان للإنجليزية بمجلة بانيبال الصادرة من لندن العدد الثلاثين