اتفقت مع أحد الأصدقاء على مشاهدة نهائى كأس العالم معا.. وقررنا أن نشاهدها على قناتنا الوطنية.. وما إن انتقل الإرسال إلى جنوب أفريقيا حتى طالعتنا المراسلة بكل حماس وثقة «نحييكم من سكر سيتى».. فجأة التفت إلى صديقى الذى وجدته يلتفت إلى، وفى صوت واحد- تقريبا- قلنا: «معقول».. سكر.. سكر.. سكر! (1) وبدلا من أن ننشغل بالمباراة.. تدفقت مجموعة من الأسئلة دون ترتيب وبشكل غير منظم دون أن ينتظر أى منا إجابة عما يطرح من أسئلة.. من هذه الأسئلة: هل بعد شهر إقامة ضمن بعثة كبيرة ممتدة فى جنوب أفريقيا ألا يتم التعرف على النطق الصحيح لاسم الملعب الذى يقام عليه النهائى؟.. هل لم تستمع المراسلة للنطق الصحيح يتردد من حولها سواء من أهل البلد أو من المراسلين الأجانب أو من وسائل الإعلام الأخرى؟.. لم يحدث أن بحثت عن معنى اسم الاستاد وأنه وثيق الصلة باللعبة التى تجرى منافساتها على مدى شهر؟ هل لم تتلق أى دراسات تتعلق باللغة وطريقة نطقها؟..خاصة أن الكلمة إنجليزية بامتياز وعريقة وليست برتغالية أو صربية أو...إلخ، حيث يكون الخطأ مقبولاً بنسبة معقولة بالطبع مثلما يحدث فى نطق أسماء اللاعبين عند إذاعة المباريات...إلخ. وبالأخير ما علاقة «السكر» بكرة القدم.. «ده ناقص» تقول: «نحييكم من سكر سيتى مول». (2) واقع الحال قد تبدو مثل هذه الوقائع بسيطة وقد تناولناها فى مقالنا «المراسل عماشة» حول سوء استخدام اللغة.. بيد أن تكرارها من جهة، وشيوعها إلى درجة تجعل منها وضعا سائدا من جهة أخرى، إنما يعكس حالة من حالات التراجع والوهن..كما أن القبول بمثل هذه الاختلالات دون تصويب أو تصحيح أو لفت النظر إنما يعنى انقطاعا عن العلم والمعرفة والدقة..وتأكيدا لثقافة مضمونها: «كله عند العرب صابون».. «ياسيدى هو حد حيراجع ورانا».. «ما تدقش».. «إيه يعنى نطق كلمة غلط هى الدنيا خربت يعنى». المفردة فى اللغة هى بداية التواصل مع الذات والآخر والثقافة والمعرفة.. فالنطق الخطأ للكلمة يؤدى إلى فهم خطأ وإلى استدلال خطأ.. فمن استمع لكلمة «سكر» سوف يتجه تفكيره فى اتجاه يعكس ما استمع إليه والذى سوف يدور حول السكر الذى نستخدمه للتحلية.. أو سوف يصبح الأمر محل سؤال حول علاقة «سكر» بملعب لكرة القدم.. بينما الكلمة فى الأصل «سُوكَر» (Soccer) وتعنى لعبة كرة القدم.. ونطقها بالإنجليزية له أصول لغوية وصوتية تجعل من تكرار حرف الC ينطق K، والe ينطق أقرب إلى الA.. وهكذا.. والخلاصة أن الكلمة بهذا المعنى تكون الأقرب إلى المنطقية.. لأنها تعنى ملعب كرة القدم.. والنطق الخطأ لا يؤدى إلى ما تعنى وإنما يؤدى إلى شىء آخر. (3) الخلاصة.. تعكس هذه الواقعة إشكاليات عدة.. أولاها مدى كفاءة الكوادر الإعلامية.. وربما يكون من المفيد أن نذكر كيف أننا انتقلنا إلى محطة تليفزيونية أخرى فوجدنا المذيع يتفنن ويستمتع باستعراض قدراته اللغوية فى النطق الصحيح للأسماء وتناول المفردات وكيف تنطق بلغات عدة ويوظف هذه القدرات بخلق «لازمة» تميزه.. وفى نفس الوقت تعكس قدراته اللغوية ثقافة واسعة حول تاريخ الدولتين المتنافستين فى المونديال: التاريخ السياسى والثقافى. الإشكالية الثانية حول معايير إرسال البعثات الإعلامية..الإشكالية الثالثة- وبها ننتقل إلى مستوى آخر من القراءة للظواهر- حول علاقتنا باللغة سواء لغتنا الوطنية أو اللغات الأجنبية.. وعدم إدراك أن اللغة: ■ تعنى التعبير كما تعنى التفكير. (4) إن طريق التحديث يبدأ عن طريق اللغة.. وليس صدفة أن نهضة مصر بدأت بالبعثات والترجمة على يد شيخنا الجليل الطهطاوى ومن ساروا على دربه.. إن طريق التجديد يبدأ بالاطلاع على معارف من تقدموا.. واللغة هى وسيلتنا لذلك..وأن تجديد الذات الثقافية التى تخلفت فى كثير من العلوم يبدأ بالاطلاع على الآخر الثقافى الذى تقدم.. وليس صدفة أنه منذ أن انقطعنا عن جديد العالم توقف كثير من المدارس العلمية عن الإنجاز.. وبات الانجاز فرديا.. وربما نستفيض فى حديث التحديث لاحقا.