ما الذى حدث.. وماذا تغير؟!.. سؤال واجهنى أمس كثيراً، تعليقاً على مقال «أيمن ومحمود.. وعبدالفتاح».. أيمن ضابط الشرطة.. محمود وكيل النيابة.. وعبدالفتاح المحامى.. ثلاثة أضلاع للعدل.. وتعبير دقيق عن المجتمع.. وفى ظنى أن هذا السؤال أكبر من خريطة مصر، وأعمق من باطن الأرض.. فالثلاثة الذين روينا حكايتهم، أمس، كانوا إفرازاً طبيعياً لمجتمع صحى.. تربوا فى بيوت بسيطة، ولكنها تغرس الأخلاق فى نفوس أبنائها، ولا تلقنهم فنون جمع المال من أى مصدر عكر.. تعلموا فى مدارس بدائية، ولكنها تعلى شأن العلم والعقل، ولا تزرع فى الأمعاء التعصب وضيق الأفق.. كان المجتمع يقول لهم «الشرف ليس فضيلة.. لأنه ليس استثناء.. فأن تكون شريفاً، فهذا هو القاعدة.. وإن فسدت وأفسدت، فأنت لست منا»..! غير أننا لابد أن نحاول تشريح كل حالة على حدة.. دعونا نبدأ ب«أيمن»، ضابط الشرطة، الذى خرج من أسرة بسيطة، فأصبح أيامها نموذجاً مثالياً لرجل الأمن.. لم يمد يده لأحد أو على أحد.. لم يسقط فى «غواية» البدلة الميرى والكتافة.. كان يرى بدلته مسؤولية وامتحاناً وابتلاء.. دعونا نسأل أنفسنا: لماذا تحول «أيمن» من قاعدة عامة إلى استثناء.. لماذا أصبحنا نشكو من «ضابط الشرطة».. ولماذا بات «ضابط الشرطة» يصرخ منا.. هل وحده الذى تغير.. ؟! يقولون إن المجتمعات تلد أبناءها.. يخرجون إلى الدنيا بجينات البلد.. ملامح واحدة ، وإن اختلفت القسمات.. وسلوكيات مشتركة، وإن تفاوتت التفاصيل.. ضابط الشرطة يا سادة لا يتم تصنيعه فى ماكينات إنتاج.. ثمة ماكينة واحدة تصنعنا جميعاً.. إنها مصر.. مصر التى أنجبت «أيمن» ليست مصر التى تلد ضباط هذه الأيام.. مصر الثقافة والفكر والمبادئ والأخلاق والعدالة الاجتماعية ليست مصر التردى والسطحية والفهْلوة والفساد.. فكيف تنتج هذه ال«مصر» ما أنتجته تلك ال«مصر»؟! ضابط الشرطة يتخرج الآن وهو مؤمن بأنه نتاج ثقافة «الواسطة».. تعلّم فى مدارس «التلقين والحشو».. مدارس مثل علب السردين، مدرسة صباحية بلا ضمير.. ومدرسة مسائية فى «البيت» على دفتر شيكات.. يخرج الضابط إلى الحياة بمرتب لا يكفى سد الرمق، يعمل 16 ساعة فى اليوم، إما فى لفحة الشمس الحارقة أو فى قسم شرطة لا يوفر له مروحة سقف.. يكافح جريمة مختلفة عن الماضى.. ما يزيد على 8 ملايين مواطن يعيشون فى العشوائيات والمقابر.. الجريمة لديهم سلوك رضعوه مع لبن الأم.. حياتهم ليست أفضل من الموت.. جرائم لم تواجه «أيمن»، وواقع لم يصنعه..! «أيمن» لم يشاهد بأم عينيه فساداً يفيض أنهاراً.. كان المجتمع نظيفاً، وأكبر لص فيه حرامى غسيل.. أما اليوم فالضابط يعرف.. والمعرفة تقتل صاحبها.. هو يعرف أن الفساد بات قانوناً.. يا عزيزى كلنا لصوص.. فلماذا أعض النواجذ على الشرف والأمانة.. الكبير يلتهم فساداً يكفى سعة بطنه وقدرته على الهضم.. والصغير يخطف قضمة أو ينتش فى جيفة.. فكيف يعيش الضابط المسكين على 800 جنيه فى الشهر..؟ «أيمن» كان ثمرة طازجة لمجتمع له أغصان وارفة.. فإذا جفت الأغصان.. وإذا أكل السوس العروق.. وإذا تخوخت الشجرة وأوشكت على السقوط.. فكيف ننتظر ثماراً تشبه «أيمن»؟! [email protected]