لا شىء يحميك من غضب القضاة سوى احترامك للعدالة.. المنصة دائماً أكبر من الذى يجلس عليها.. أنا ممن يقدسون المنصة والميزان الذى يعلوها.. أحياناً أتعمد عدم رؤية الجالسين عليها.. فالقاضى يستمد سلطته من «العدالة العمياء».. وحين تفتح العدالة عينيها لترى، وتحسب، وتوازن، وتوائم، تفقد كل شىء.. ففى القضاء لا وجود للجزئية.. إذ لا يمكنك أن تكون عادلاً إلا قليلاً.. ولا يمكنك أيضاً أن تصبح ظالماً بعض الشىء.. فإما تكون عادلاً أو ظالماً.. وعليك أن تختار بين نار العدل وفتنة السلطة المطلقة..! هذا المفهوم يطرح أخطر سؤال يواجه مصر الآن: ما الذى حدث للقضاء.. هل تغير القاضى.. ولماذا دخل أعضاء النيابة فى مواجهات متكررة مع المحامين، وأزمات مكتومة مع الشرطة؟!.. ربما يكون مناسباً أن نقر أولاً بوجود أزمة حادة بين الأطراف الثلاثة.. الشواهد والوقائع تؤكد ذلك.. ولكننا اليوم سنحاول تحليل ما حدث للقضاء والقضاة خلال السنوات الأخيرة.. والنقاش مفتوح ممن لديه وجهة نظر سواء من السادة القضاة أو القراء! السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.. والمجتمع المصرى يحمل جيناً رديئاً يجنح بصاحبه إلى «التقديس الفرعونى» لكل صاحب سلطة.. القضاة على مر سنوات طويلة حاولوا رسم صورة محصّنة لأنفسهم، وبدلاً من محاولة المجتمع تقويم الصورة، أحلنا الحصانة المطلقة إلى «صورة إلهية» للباشا القاضى.. نسينا أنهم بشر.. وأنهم يصيبون ويخطئون.. تحوّل حلم الانضمام للنيابة لدى الشباب من مسؤولية جسيمة وقبض على النار إلى وجاهة وامتيازات وألقاب.. الباشا راح.. الباشا جاء.. الباشا لا يقف فى إشارة مرور ولا تسحب رخصه.. وإذا فعلها أحد سيواجه العبارة الشهيرة «إنت مش عارف أنا مين»! المشكلة ليست فى الامتيازات والتمييز، وإنما فى تأثيرها الخطير على سيكولوجية القضاة وأعضاء النيابة.. فتدريجياً ينمو هذا الإحساس لديهم، فيتصور القاضى ووكيل النيابة أنه فوق الحساب.. بل فوق الخطأ.. وحين يدخل فى مواجهة مع أى طرف فى المجتمع، قد يتحول سلوكه إلى تجاوز يراه هو حقاً مكتسباً.. وأحياناً يراه تصرفاً طبيعياً، فكيف لأحد أن يقف فى مواجهة «الباشا».. وكيف لمواطن أن يتظلم منه.. وكيف لسلطة أن تحاسبه؟! فى السياسة.. ظلمنا القضاة، مثلما ظلمهم المجتمع، حين أسبغ عليهم تقديساً استثنائياً.. فحين كلفناهم بمراقبة الانتخابات، ثقة وتقديراً، طالتهم تجاوزات الانتخابات، ودخلوا فى مرمى النيران.. نيران السلطة التى لا تريدها نظيفة ونزيهة.. ونيران المرشحين والبلطجية من كل لون وصنف.. وحين عجز النظام الحاكم عن تحمل «عدالتهم» استبعدهم من الانتخابات، فأوغر صدورهم.. وتحول بعضهم إلى معارضين وناقمين على السلطة التى سلبتهم شرف العدالة فى لجان الانتخابات! غير أن أخطر ما أصاب رداء القضاء، خلال السنوات الأخيرة، هو محاولات توجيه المنصة لأغراض سياسية، ولخدمة النظام الحاكم.. ففى الوقت الذى طالب فيه قضاة بالاستقلال التام عن السلطة التنفيذية، عمدت الحكومة إلى التدخل بشكل غير مباشر فى العملية القضائية، فبدلاً من توجيه الحكم بات توجيه الملف إلى قاض بعينه هو الآلية الأكثر مناسبة للمرحلة.. وظهر فى الأفق تعبير مرعب «فلان قاضى الحكومة.. وفلان معارض.. وفلان مالوش فى السياسة».. وهكذا نجحت السلطة فى إحالة القضاء من سلطة عليا إلى أداة سياسية..! شخصياً لا أخشى ما كتبت.. وشخصياً مازلت أذكر قضاة زمان.. كانوا يعيشون بيننا دون أن نعرف.. طيف خفيف بلا عبء على المجتمع.. يدركون حجم الاختبار والابتلاء اليومى.. كانوا نخبة فوق النخبة، ولكن دون «تقديس» أو تمييز أو امتيازات.. كانوا ضمير مصر حين كانت مصر طاهرة.. عفية.. وتجيد صناعة أبنائها..! [email protected]