حين كنت صغيراً.. كان فى بلدتنا ضابط ووكيل نيابة ومحام.. الضابط كان ابن أسرة متوسطة، التحق بكلية الشرطة، فأصبح مثلاً أعلى لصبيان البلدة.. كنا نجلس أمام بيت صديقى «طارق كف» الذى مات منذ عدة أشهر بسبب الإهمال الطبى.. طول النهار لعب كرة متواصل، وفى المساء دردشة وكلام عن الكائنات الخرافية التى تعيش بيننا.. كانت «البنت» أول هذه الكائنات المجهولة.. كان صديقى «طاهر المليجى» شقياً.. وكان «طارق» حالماً.. وكنت بريئاً ساذجاً.. طاهر يتمنى أن يصبح «كازانوفا» البنات.. وطارق يحلم بأن يغرق فى حب «بنوتة العمر».. وأنا لا أعرف ما إذا كنت سأتمكن يوماً من لمس «يد بنت» أم سأغرق فى الخجل.. وكان «الضابط» يمر علينا كل يوم..! كان اسمه «أيمن».. يحمل فوق كتفيه «دبورتين».. يمشى برأس لا يلتفت يمنة أو يسرة.. كنا نقول له «يا حضرة الظابط»، لم يكن اللقب بدعة.. كان الجميع يقولون له «يا حضرة الظابط».. الكبير قبل الصغير.. وكان بالفعل ضابطاً.. كنا نقول لأنفسنا «ياه.. لو الواحد طلع ظابط زيه.. أكيد كل بنات منيا القمح هتتجوزه»..! أيمن لم يكن حالة خاصة بين أقرانه فى سلك النيابة أو المحاماة.. الأستاذ «عبدالفتاح المحامى» كان قدوة تمشى على قدمين.. يذهب إلى المحكمة مرتدياً بدلة «صوف المحلة»، ولكنها تضارع بدلة الوزير فى الأناقة والنظافة.. يلتف حوله المواطنون بالشكاوى والقضايا، فيتسلمها بأدب جم.. ويضعها فى ملف أنيق ويدسها فى حقيبة متخمة بالأوراق.. لا يتحدث ولا ينطق إلا بعبارة واحدة «أنا ليا مكتب يا جماعة.. مفيش محامى محترم يقف أمام المحكمة مع موكليه».. كان الأستاذ عبدالفتاح يصر على عدم تقاضى أتعاب المحاماة إلا وفقاً لنظام محدد.. يرفض القضية التى لا يؤمن بموقف موكله فيها.. كانت له عبارة مأثورة كادت تعلق على الجدران «المحامى قاضى.. لا يُباع ولا يُشترى».. وكنا نحلم بأن نصبح مثله «ياه.. لو الواحد دخل كلية الحقوق وطلع محامى زى الأستاذ عبدالفتاح.. أكيد هيطلع وزير.. آه.. أصل معظم الوزرا تخرجوا فى كلية الحقوق»..! كان «محمود» من أولئك الذين تخرجوا فى الحقوق.. شاب يفرح.. حصل على تقدير جيد جداً، رغم أنه كان يذاكر على «لمبة جاز» فى قريته.. تلقفته النيابة العامة، فتحول فى البلدة إلى «أيقونة المجتهدين».. كان والده مزارعاً بسيطاً.. لم نعرف كيف دخل سلك النيابة.. ولكننا كنا نعرف جيداً أن «لكل مجتهد نصيب».. لم يكن الأمر غريباً.. ففى البلدة من التحقوا بوزارة الخارجية من الطبقة المتوسطة وما دونها.. فكانت «شلة الأحلام» تجلس أمام «بيت طارق» ليالى وليالى ليختار كل منا هل يصبح «أيمن الضابط».. «عبدالفتاح المحامى» أم «محمود وكيل النيابة»؟!.. وكان الاختيار صعباً، وكان الطريق أصعب.. «إحنا مين أساساً علشان نطلع زى دول.. إحنا طول النهار بنلعب كورة.. وطول الليل نتكلم عن البنات.. الظابط ده حاجة كبيرة قوى.. والمحامى البلد كلها بتجيبه يحل مشاكلها.. ووكيل النيابة لا يخطئ، لأنه هيترقى ويطلع قاضى.. ياه قاضى.. حاجة كده زى الأنبياء.. كان آباؤنا يقولون لنا ذلك «القاضى يا ولاد ضمير وعدل وزهد وشرف وعصمة».. وكنا نصدق ذلك، لأنهم كانوا كذلك..! كانوا من بين الكائنات الخرافية التى تملأ حياتنا.. وحين كبرنا قليلاً، لم تعد البنت كائناً خرافياً.. وظل أيمن وعبدالفتاح ومحمود ومن مثلهم «أصل الكائنات الخرافية».. لم يصبح أحد منا ضابطاً ولا محامياً ولا وكيل نيابة.. ربما لأن الصورة الذهنية عن هذه «الكائنات» كانت أكبر من أحلامنا وقدراتنا.. كانوا يجسدون العدل والشموخ.. وكنا نقدس العدل، وكنا أدنى من ذاك الشموخ..! تذكرت تلك الصور حين استوقفنى شاب فى الشارع، وسألنى: «لماذا لم تقل رأيك فى أزمة القضاة مع المحامين.. ومقتل الشاب خالد سعيد فى الإسكندرية؟».. لم أرد، ومشيت أفكر، فتذكرت «أيمن وعبدالفتاح ومحمود».. نظرت حولى فلم أجدهم.. فأدركت أن كل شىء تغير.. لماذا؟!.. ربما نعود إلى هذا السؤال..! [email protected]