يندهش أصدقائى الأمريكيون حين يعلمون أننى أتابع قناة «فوكس» الإخبارية الأمريكية بانتظام. فأولئك الأصدقاء من الأمريكيين المعتدلين- ديمقراطيين أو جمهوريين- يجدون «فوكس» قناة زاعقة فى يمينيتها، تبتعد كثيرا عن المهنية بسبب انحيازها الأيديولوجى، وكثيرا ما ينضح خطابها بالعنصرية، بينما تأتى برامجها الحوارية ملفوفة بالعلم الأمريكى، لا تجد فى الشخصية الأمريكية والدور الأمريكى فى الخارج إلا ما يستوجب تهنئة الذات. وأعترف بأن «فوكس» فعلا مثيرة للأعصاب، ولكننى- بحكم التخصص- مضطرة لمتابعة ما تقدمه. فهى- من وجهة نظرى- تلعب دورا بالغ الخطورة ليس فقط فى تشكيل الرأى العام وإنما فى التأثير على صناعة السياسة الأمريكية ذاتها. مناسبة تلك المقدمة هى المظاهرتان اللتان شهدتهما واشنطن الأسبوع الماضى. الأولى كان قد دعا لها «جلين بيك» أشهر مقدمى برامج «فوكس نيوز»، لتجرى وقائعها فى نفس اليوم والمكان الذى ألقى فيه مارتن لوثر كينج خطابه الشهير منذ 47 عاما، وكان نقطة الانطلاق لحركة الحقوق المدنية التى أنهت عهدا مريرا من الفصل العنصرى والتمييز ضد السود. أما المظاهرة الثانية فقد دعت إليها قيادات سوداء، احتجاجا على مظاهرة بيك التى اعتبروها إهانة لكينج وسعيا للاستيلاء على ميراثه وتشويهه. والحقيقة أن «جلين بيك» هو فعلا آخر من يحق له الزعم بأنه يمثل امتدادا لزعيم الحقوق المدنية. ف«بيك» معروف بتعليقاته التى لا تخلو من عنصرية. فهو كان قد اضطر مثلا للاعتذار للأمريكيين من أصول آسيوية بعد أن سخر منهم فى برنامج إذاعى، وهو الذى قال لنائب الكونجرس الأسود المسلم كيث أليسون «اثبت لى أنك لا تعمل مع أعدائنا»، ثم إنه هو الذى كان قد اتهم أوباما منذ شهور بأنه «عنصرى، يكن كرها عميقا للبيض وثقافتهم». و«جلين بيك» هو أيضا الذى شن مؤخرا هجوما عنيفا على لاهوت التحرير الأسود، إحدى أهم كنائس السود فى أمريكا. وفى برنامجه على قناة «فوكس» يتقمص «بيك» دور المعلم ل«أمريكا» فيمسك بالطبشور ويكتب على سبورة شارحا لمشاهديه العلاقات التاريخية بين أفكار التقدميين الأمريكيين وشخوصهم وبين الشيوعية والاشتراكية والفاشية والنازية، فى واحد من أفضل نماذج نظرية المؤامرة. خطورة المظاهرة هى أن مضمونها كان خليطا فريدا من الدين والسياسة والاحتفاء بالعسكرة. ف«بيك» دعا ل«استعادة» أمريكا عبر «العودة لله والقيم الدينية»، بينما حذر متحدثون آخرون من «العلمانية». أما سارة بيلين فقد قدمت نفسها كأم لجندى فى الجيش الأمريكى الذى وصفته بأنه «قوة خير» فى هذا العالم «لا يجوز الاعتذار عنها». أما الذين شاركوا فى المظاهرة، فأغلبيتهم الساحقة من البيض من مريدى «جلين بيك» المؤمنين بأفكاره. الخطورة فى كل ذلك هى أن رموزا متطرفة- مثل جلين بيك وسارة بيلين- صارت فعليا رموز تيار اليمين المحافظ بينما تراجعت رموز الحزب الجمهورى التقليدية، خصوصا المعتدلة منها. وقد استطاع تيار «بيك» و«بيلين» أن يهزم الكثير من رموز الحزب الجمهورى الأكثر اعتدالا فى انتخابات الحزب التمهيدية، بما يعنى أن الحزب الجمهورى المنتظر أن يسيطر على الكونجرس بمجلسيه فى انتخابات نوفمبر القادم سيكون أكثر تطرفا حتى من ذلك الذى عرفناه فى عهد بوش.