بالرغم من إن مبدأ التقدم في مجال التكنولوجيا والابتكار من العوامل الأساسية في التنافسية الدولية، وتحديد موقع الدول بين الأمم، ففي الوقت الذي تعقد فيه العديد من المؤتمرات والندوات والمنتديات التي تناقش وتحلل وتدرس العلاقات العربية التركية في المجالات السياسية والاقتصادية ، فلم يتم تسليط الضوء بعد على دور العلم في الدبلوماسية والقوة الناعمة للعلم في الشئون الدولية وخاصة مع القفزة النوعية التركية في مجال البحث العلمي والإبداع التقني وتفوقها على إسرائيل في معدل النشر العلمي. ومع تنامي العلاقات بين أنقرة والعواصم العربية ولضمان التغيير الفكري والتطوير التنموي، يمكن البدء في انتقال العلاقات العربية التركية إلى المستوى الأكاديمي والبحثي والتقني بما يؤسس ويعمق العلاقات التي كانت قائمة منذ آلاف السنين وبما يطور ويحصن الشراكة العربية التركية التي بدأت تحقّق مكاسب هامة لشعوب ودول المنطقة. لذا نتناول في هذا المقال عرض مختصر للتجربة التركية في مجال العلوم التكنولوجيا والابتكار التي كانت الدافع الأساسي للنمو الاقتصادي مع بيان بعض التطورات العلمية الكمية والنوعية التي حققتها تركيا. كما نقدم بعض المقترحات لتدعيم التعاون العربي التركي من خلال من إقامة التحالفات والشراكات مع المؤسسات العلمية والجامعات حيث أنه لم يعد التعاون الدولي والإقليمي بين الجامعات خياراً بل أصبح ضرورة للتطوُّر و زيادة القدرة التنافسيّة والسعي إلى العالمية من أجل إقامة المجتمع المعرفي.
1. التجربة التركية في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار منذ قرابة خمس سنوات، وحين كان الرئيس التركي عبد الله جول وزيراً للخارجية، أطلق تصريحاً قال فيه "نحن لا نُصلح بلادنا فقط من أجل الوفاء بالمعايير الأوروبية. لدينا جدول أعمالنا الخاص ومتطلباتنا التي تتجاوز ما يريده الأوروبيون منا. إنها ثورةٌ صامتة تلك التي تجري هذه الأيام في تركيا". وإيمانا من القيادة التركية بأن تقدم الدول ذات القواعد الاقتصادية المتينة يعتمد بشكل كبير على وجود مؤسسات تتميز بالفاعلية المستمرة والدور الإيجابي في مجال الإبداع والابتكار،فقد أخذت الثورة التركية الصامتة مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار كدافع أساسي للنمو الاقتصادي. فقد تم إطلاق مبادرة العلوم والتكنولوجيا والابتكار عام 2004 بواسطة المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، وهو أعلى هيئة معنية بوضع سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار في تركيا. وقد اشتملت المبادرة- التي أوضحت التزام تركيا القوي في الاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجي، علي عدة محاور منها: تحديد الأهداف بعيدة المدى. توزيع المهام على مختلف الأطراف اعتمادا على النهج التشاركي. توفير المصادر المالية اللازمة للبحث والتطوير. إعداد البيئة التشريعية والمؤسساتية الموائمة له. زيادة حصة الإنفاق الكلي على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي عن طريق تقديم الدعم للهيئات الخاصة المعنية بذلك. إعداد إستراتيجية وطنية للبحث والتطوير. إعداد إستراتيجية وطنية للابتكار. زيادة كمية ونوعية الأشخاص العاملين في البحث والتطوير، وتشجيع الطلب عليه. تحسين القدرات البحثية والبنية التحتية. تحسين التعاون الدولي في مجال البحث والتطوير والابتكار بتحسين التعاون الثنائي والتعاون متعدد الأطراف. المشاركة بمشاريع الاتحاد الأوروبي، والإستراتيجية الدولية للعلوم والتكنولوجيا والابتكار. كما دعت المبادرة إلي وضع برامج وخطط لتكثيف الاستثمار في جيل المعرفة العلمية وتقديم الأطر القانونية والبنية التحتية وحشد الموارد المالية العامة وحث القطاع الخاص لتشجيعه على نشر وتحقيق فعاليات البحث العلمي والتكنولوجي. وقد استطاعت تركيا بفضل القرارات التي اتخذها المجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا والإستراتيجية العلمية والتكنولوجية تطوير نطاق البحث وتحقيق قفزة إلى الأمام في مجال العلوم والتكنولوجيا والإبداع والابتكار. وقد أدت المبادرة التركية إلي العديد من التطورات الكمية والنوعية في تاريخ تركيا العلمي. منها على سبيل المثال لا الحصر الآتي: ازداد الإنفاق على البحث والتطوير بين عامي 2002 و2008 بنحو 4.4 مرات، ليصل إلى 0.73% من الناتج المحلي الإجمالي (والمخطط أن يصل إلى 2% عام 2013). ازداد عدد العاملين في مجال البحث والتطوير في مختلف المؤسسات من 29 ألفاً عام 2002 إلى 67 ألفاً عام 2008، وازداد عدد الباحثين في الفترة نفسها من 24 ألفاً إلى 53 ألفاً (والهدف المنشود هو 150 ألفاً) . ازداد عدد المقالات العلمية المنشورة في المجلات البحثية المحكمة العالمية من 10309 مقالات عام 2002 إلى 22738 مقالاً عام 2008. ازداد عدد براءات الاختراع من 85 عام 2002 إلى 390 عام 2008. تفوّقت تركيا بين عامي 2002 و2007 على دولتين أوروبيتين هما فنلندا والدنمارك في معدّل الإنفاق الكلي على البحث والتطوير، كما تجاوزت ست دول بعدد العاملين في مجال البحث والتطوير وهذه الدول هي على التوالي فنلندا والدنمرك وبلجيكا والنمسا واليونان ورومانيا. وتفوقت على خمس دول بالنسبة لعدد الباحثين فيها فأتت قبل فنلندا والدنمارك وبلجيكا والنمسا وهولندا. وأخيراً أتت قبل أربع دول بالنسبة لمعدل النشر العلمي (بلجيكا وبولونيا وتايوان وإسرائيل).
2. البحث العلمي في تركيا.....حقائق ومؤشرات يعتمد تقييم البحث والتطوير على عدة مؤشرات يمكن الاعتماد عليها كمعايير لقياس البحث العلمي ومنها مؤشرات خاصة بمدخلات البحث العلمي والتطوير التقني مثل الموارد البشرية والإنفاق ومؤشرات خاصة بالمخرجات مثل عدد الأبحاث وبراءات الاختراع. وفيما يلي بعض المؤشرات الدولية والإقليمية للبحث العلمي التركي: احتل الإنتاج البحثي للجامعات ومراكز البحوث في تركيا الترتيب الأول على مستوى الدول الإسلامية السبعة والخمسين الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي. وذلك طبقا للتقرير الدولي "عصرا ذهبيا جديدا؟ آفاق العلم والابتكار في العالم الإسلامي الصادر عن مركز سياسات العلم التابع للجمعية الملكية البريطانية والذي تم نشره في 29 يونيه 2010م، ضمن منشورات مشروع "أطلس العالم الإسلامي للعلوم والإبتكار". الجدير بالذكر أن نظام التعليم العالي التركي يشمل على 53 جامعة حكومية و23 جامعة خاصة (عائدة للأوقاف). ويتم مراقبة و إدارة التعليم العالي من قبل مجلس التعليم العالي، الذي تم إنشاءه عام 1981. طبقا لتقرير مجموعة سيماجو البحثية الأسبانية الصادر في 11 ديسمبر 2010م الذي اعتمدت على عدد الأبحاث العلمية المدرجة في الفهرس الدولي سكوبس في القترة من 1996م-2008م. ، فإن تركيا تحتل المركز الأول على مستوي العالم الإسلامي من حيث العدد الكلي للأبحاث, عدد الإستشهادات الكلية, متوسط عدد الإستشهادات لكل بحث. الجدير بالذكر أن ( SCOPUS Abstract & Citation Database) هي من أكبر قواعد الملخصات للأبحاث العلمية والمصادر ذات القيمة الموجودة على الشبكة العالمية و تحتوي على 14,200 عنوان منشوره من قبل 4000 ناشر ، و تغطي الكيمياء ، الفيزياء، الرياضيات، الهندسه، العلوم الصحي وعلوم الحياة ، العلوم الاجتماعية و علم النفس، الاقتصاد، العلوم الحيوية و الزراعية و البيئية وكذلك العلوم العامة. و تغطي السنوات: من 1966 إلى عام الاشتراك. طبقا لتحليل للمعلومات المدرجة في قاعدة بيانات معهد جورجيا الأمريكي لأبحاث تقنية النانو (التقنيات المتناهية في الصغر( Nanotechnology. وذلك لقياس عدد الأبحاث العلمية المفهرسة في مجال تقنية النانو في الفترة من أغسطس 2008م حتي يوليو 2009، جاءت تركيا في المركز (23) دوليا من ضمن 152 دولة شملتها قاعدة البيانات. الجدير بالذكر أن تقنية النانو تعد الثورة التكنولوجية الخامسة في العالم. وهي من المجالات العلمية الحديثة الواعدة التي تشهد حاليا سباقا وتنافسا عالميا هائلا وتطورات متزايدة ستغير وجه العالم في كافة مجالات الحياة، كما ستشكل تحولات هائلة في الاقتصاد العالمي في الحاضر والمستقبل، ومن المتوقع أن يصل حجم إنتاجها من مواد ومنتجات وتقنيات وخدمات إلى نحو 2.6 تريليون دولار عام 2015، كما ستوفر أكثر من 7 ملايين فرصة عمل بحلول العام نفسه.
3. البحث العلمي في الوطن العربي.. مقارنة مع تركيا أنشطة البحث العلمي حسب التعريف الدقيق لمنظمة اليونسكو هي " كل عمل إبداعي يمارس وفق أساس منهجي بهدف زيادة رصيد المعارف بما في ذلك المعارف الخاصة بالإنسانية والثقافة والمجتمع، واستخدام رصيد المعرفة هذا من أجل ابتكار تطبيقات جديدة. و يشمل مصطلح البحث و التطوير التجريبي ثلاثة أنشطة: البحث الأساسي و البحث التطبيقي والتطوير التجريبي". وتعد البحوث المنشورة من أهم نتاج ومخرجات البحث والتطوير، شأنها شأن الخبرة التقنية، إذ ترتكز فلسفة البحث والتطوير على أن المعرفة العلمية هي رصيد من الخبرة الفكرية. ولكي يغدو عملاً ما جزءًا من هذا الرصيد المعرفي لابد من أن ينشر ويوثق. ويعتبر النشر العلمي مقياس للنشاط العلمي للفرد العالِم أو للمؤسسات العلمية. وله شروط وضوابط صارمة وهذا ما جعله في واحد من أعلى مراتب التقييم. وبطبيعة الحال فإن محتويات النشر تخضع لضبط الجودة من خلال نظم تحددها الدوريات العلمية . وطبقا لدراسة ل"منظمة المجتمع العلمي العربي" حول البحث العلمي في الوطن العربي، واقعه و تحليلاته و استشراف مستقبله، ففد تبين أن الإنتاج البحثي التركي ازداد بمعدل يفوق معدل زيادة الوطن العربي. حيث بلغ الإنتاج التركي 22,000 بحثا في العام 2009 ، بينما بلغ الإنتاج العربي الكلي حوالي 12,000 من نفس العام.
4. التعاون الأكاديمي بين تركيا والعرب...القوة الناعمة للعلم بالرغم من أن التعاون العربي التركي يشهد بعض التقدم على المستوي الاقتصادي ، فإن الجانب العلمي و التقني لم يحظ باهتمام كبير من الجانبين. لذا ونظرا لدور العلوم والتكنولوجيا في قيادة عملية التنمية الاقتصادية، فقد بدأت تركيا في استخدام قوتها العلمية والتعليمية في نشاطها الدبلوماسي واستخدام القوة الناعمة للعلم في تدعيم علاقتها الدولية وفى تحقيق السلام وذلك من خلال توقيع تركيا على اتفاقيات تعاون ثقافي شاملة وإقامة مجالس إستراتيجية- تركز تدعيم أواصر التعاون في مجال التعليم والعلوم والتكنولوجيا ضمن مهامها- مع مختلف البلدان العربية. وخاصة بعد إنشاء الجمعية التركية العربية للعلوم والثقافة التي تعمل على تنشيط التعاون في البحث العلمي بين الهيئات الأكاديمية والمؤسسات العلمية والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات والتشجيع على البحث العلمي. فعلي سبيل المثال لا الحصر، فقد أعلنت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الكوردستانية، ، أن جامعة أنقرة التركية الحكومية، وافقت على فتح فرع لها في عاصمة الإقليم، في مدينة أربيل مبينة أن الهيئة التركية للتعليم العالي أبدت استعدادها الكامل لدعم وإسناد برنامج الإصلاح الطموح الذي تنفذه الوزارة للارتقاء بواقع حال قطاع التعليم العالي في الإقليم وترصينه بحسب المعايير الأكاديمية العالمية. وذلك من خلال تبادل الخبرات ونقل التجربة التركية لاسيما في مجال ضمان الجودة، علاوة على تسهيل قبول طلبة الإقليم في برامج الدراسات العليا المنفذة في الجامعات التركية، لاسيما على صعيد الدكتوراه، وتنفيذ برامج مشتركة في هذا الشأن بالتعاون بين تدريسيين من جامعات الجانبين. كما تم عقد العديد من المنتديات والمؤتمرات العربية التركية لتعميق التعاون العلمي وتحقيق خطوات عملية تزيد من التقارب والتواصل بين الجامعات والمراكز والهيئات العلمية والباحثين والطلاب وزيادة الانفتاح العلمي من خلال الإعتراف المتبادل للدرجات العلمية في الجامعات العربية والتركية والزيارات المتبادلة اللازمة لاكتساب المعارف وتطوير المشاريع والبرامج النوعية المشتركة بين الجامعات التركية ونظيراتها العربية و إقامة إتحاد الجامعات العربية والتركية وتوأمة الجامعات. وأخيرا أوصى الاجتماع الثانى لكبار المسئولين والخبراء بين الدول العربية وتركيا فى ختام اجتماعهم بالجامعة العربية في نوفمبر 2014م ، بالعمل على تفعيل آليات التعاون التعليمي والعلمي والتقني. 5. خاتمة في الوقت الذي يصبو فيه العالم العربي نحو بناء مجتمع جديد على أسس علمية واقتصاد معرفي على أسس تقنية، فإن التجربة العلمية التركية كتجربة حضارية متكاملة من جميع النواحي، تعليميا واقتصاديًا وإبداعيا وثقافيًا ربما تمثل نموذجا يمكن التعاون معه والاستفادة منه للعبور إلى المستقبل عبر بوابة العلم والتكنولوجي. وذلك من خلال دعم التعاون بين الجامعات وقطاع الصناعة وتوقيع الاتفاقيات القانونية التي من شانها تحويل الابتكارات العلمية إلى استثمارات. The post النهضة العلمية العربية … التجربة التركية نموذجا (1) appeared first on IslamOnline اسلام اون لاين.