أتذكر من قراءاتي المتواضعة، أن هلال أول الشهر العربي يقع إلى الجنوب من المكان الذي غطست فيه الشمس بعد الغروب وتكون زاوية قرناه إلى الأعلى ويتجهان إلى الجنوب، وأن رؤيته تكون أسهل قليلاً من رؤية هلال آخر الشهر، إذ يغطس الأخير قبل الشمس إلى الشمال قليلاً من الموضع الذي ستغطي فيه الشمس بعده، فيستحيل رؤيته بعد غروبها، وتكون زاوية قرناه إلى الأسفل ويتجهان إلى الشمال! ويعد عمر الهلال هو الفترة الزمنية المحصورة بين لحظة ولادة الهلال (مفارقة قرص القمر لقرص الشمس بعد الاقتران) ولحظة غياب الشمس خلف الأفق. ويحكي التاريخ أن لحظة استشراف الهلال لدى المصرين تمثل لحظة فارقة سنوياً، لأنها الباب السحري للدخول في شهر رمضان المبارك بما فيه من البركات والحسنات والغفران وغيرها الكثير، وكان استطلاع الهلال يتم فوق سطح الجبال أو التلال أو الأماكن المفتوحة على طول الأمصار المصرية. ومثلما اختلفت حياة المصريين وعاداتهم عموماً قبل رسو الدولة الفاطمية وأثنائها وبعدها، اختلف هلول شهر رمضان المبارك ما بين استطلاع الهلال أو إجبار العباد على بداية الشهر في زمن محدد سلفاً. فقبل الدولة الفاطمية كان قاضي قضاة مصر هو من يتولَّى غالباً مسئولية رؤية هلال الشهر الكريم والإعلان عنه رسمياً للعباد، لما له من هيبة ومقام يؤهله إلى مثل ذلك، وكان يخرج إلى سطح جبل المقطم كأعلى قمم البلاد، ويجلس على "دكة" لاستطلاع الهلال، وهي ما عُرِفت تاريخياً ب "دكة القضاة"! ولم يتفق المؤرخون على بداية محددة لتاريخ استطلاع المصريين لهلال شهر رمضان المبارك أو طقوسه المختلفة، فمنهم من أرجعها إلى القاضي أبو عبد الرحمن عبد اللهبن لهيعة، ومن أرجعها إلى القاضي غوث بن سليمان، ومنهم من أرجعها إلى غيرهما، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن قاضي القضاة هو من كان يقوم بهذه المهمة دورياً، لتأخذ عنه الدواوين والأهالي الخبر اليقين في هذا الأمر ويبدأ الصيام! إلا أن حكام الدولة الفاطمية أبطلوا هذه الوسيلة ما أن ثبَّتوا ملكهم في مصر، وفرَّقوا بين القضاة ورؤية الأهلة عموماً، واستبدلوا إعلان قاضي القضاة عن رؤية الهلال بموكب الخليفة الفاطمي في مدينة القاهرة، الذي سمّي كذلك موكب أول رمضان أو موكب رؤية الهلال كما اصطلح بعض المؤرخين على تسميته. ولعلها الرغبة الحاكمية الدفينة في كسر هيبة القضاء أمام العامة والخاصة مهعاً، واستن أغلبهم التناوب بين الشهور الهجرية في أن يكون عدد أيام الشهر تسعة وعشرين يوماً ويكون الشهر الذي يليه ثلاثين يوماً، حتى إذا وقع شهر رمضان في دور أيهم كان حسب وجوده، حتى تولَّى الحاكم بأمر الله فأباح صوم رمضان بالرؤية لمن يريد! واختلف الموكب قليلاً في العصر المملوكي، إذ كان يشمل قاضي القضاة الذي يخرج لرؤية الهلال ومعه قضاة المذاهب الأربعة كشهود، ومعهم المُحتسب ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف وكبار التجار، يحيطهم حملة الشموع والفوانيس، فإذا تحققوا من رؤيته أُضيئت المساجد والمآذن وأنوار الطرقات والدكاكين، ويطوف الموكب وسط المصريين وحملة المشاعل والفوانيس معلناً بدء الصيام. كما تم في العصر المملوكي تغيير مكان استطلاع الرؤية من جبل المقطم إلى المدرسة المنصورية (مدرسة المنصور قلاوون) لوقوعها أمام المحكمة الصالحية (مدرسة الصالح نجم الدين) بالصاغة. وعاد في العصر العثماني مكان استطلاع الهلال إلى سفح جبل المقطم من جديد، وبذات الموكب المذكور تقريباً فكراً وتنفيذاً. وفي عهد الخديوى عباس حلمى الثاني أمر بنقل مكان إثبات رؤيةالهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق. ومع إنشاء دار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، أُوكلت إليها مهمة استطلاع الهلال والإعلان عنه، حتى رسى الحال إلى مرصد الأرصاد الفلكية يتولى حقيقة الاستطلاع وتُعلنه دار الإفتاء.