بصرف النظر عن مدى صحة الاتهامات في قضية التمويل الأجنبي من عدمه، وبعيداً من التجاذبات بين القوى السياسية والمدنية بشأنها، فإن وقائعها كلها تؤكد الارتباك والتخبط والعشوائية في إدارة شئون البلاد. والتطورات الأخيرة للقضية مخجلة، وهي فضيحة للنظام القضائي والعسكري والحكومي في مصر على حد سواء. القصة اشتعلت بشكل مفاجئ وغريب، بل ومريب أيضاً، وجرت كل فصولها كما لو أننا لا نزال في ظل نظام مبارك ! فبعد الغزوة التي قامت بها قوى الأمن على منظمات المجتمع المدني، واتهام الحكومة لهذه المنظمات بأنها تتلقى أموالاً من أمريكا، "وكأن حكومتنا الشريفة لا تتلقى أضعاف أضعافها من نفس المصادر تقريباً"، وتصعيد الاتهامات إلى درجة استخدام تلك الأموال في إثارة القلاقل داخل المجتمع المصري، وبعدما شهدنا "قطط الحكومة السيامي" تتنمر وتستأسد، مؤكدة أنها لن تسمح لأي قوى بالتأثير على مجريات القضية،... وبعد زيارات مكوكية لمسئولين أمريكيين، ولقاءات مع المشير والجنزوري وفايزة أبو النجا وآخرين، وبعد صولات هنا وجولات هناك، فجأة قام أحدهم بإطفاء النور! وجاء تنحي المحكمة (أو ربما تنحيتها) بمثابة إشارة لا تحتمل التأويل على أن الأداء السيء الذي ميَّز فترة حكم المجلس العسكري وحلفائه في الحكومة والبرلمان، قد امتد ليضرب حصن مصر الحصين (القضاء). كان يمكن لقرار تنحي المحكمة أن يكون قراراً عادياً لو لم يتدخل النائب العام في القضية ليمنح المتهمين الأجانب صكاً بمغادرة البلاد، وهو القرار الذي شعر معه كل مصري غيور على وطنه وهيبة قضائه بالإهانة البالغة. وكان المستشار محمد شكري، رئيس محكمة جنايات القاهرة، قد أعلن قرار التنحي مع مساعديه الاثنين عن نظر القضية، وذلك بعد قليل من بدء جلسات المحاكمة، مشيراً في طلب التنحي إلى استشعار هيئة المحكمة الحرج. وتقرر تأجيل القضية إلى جلسة 26 أبريل القادم، للاطلاع على أوراق القضية المتهم فيها 43 متهماً، من بينهم 19 أمريكياً و5 صرب و2 ألمان و3 من دول عربية و14 مصرياً. وجاء قرار التنحي قبل نظر قرار التظلم المقدم من 8 أجانب على قرار منعهم من السفر. وعقب القرار أكدت فايزة أبو النجا، وزيرة التخطيط والتعاون الدولي، أن قضية التمويل الأجنبي في مصر مستمرة، مشيرة إلى التصريحات الصادرة من الجهات القضائية المختصة من أنه سيتم تكليف هيئة محكمة جديدة لمتابعة المحاكمة. وقالت أبو النجا: "إن رئيس المحكمة سيقدم مذكرة تفسيرية حول أسباب تنحي المحكمة عن نظر القضية".وبعد قليل من تصريحات أبوالنجا، قرر النائب العام التدخل، ومنح الغطاء الشرعي لمغادرة الأجانب، الذين لم يضيعوا وقتاً، وغادر بعضهم على متن طائرة عسكرية! وأكد رئيس محكمة استئناف القاهرة، المستشار عبد المعز إبراهيم، أن إخلاء سبيل المتهمين في القضية، تم بضمان مالي قدره مليوني جنيه، لكل منهم، وجاء على اعتبار أن الوقائع المتهمين فيها تمثل "جنحة"، وليست "جناية"، وأن العقوبات المحتملة بحقهم لا تتعدى الغرامة المالية! وبحسب ما أورد موقع "أخبار مصر"، على لسان رئيس محكمة استئناف القاهرة، نقلاً عن وكالة أنباء الشرق الأوسط، فإن المتهمين قدَّموا طلبات إلى المحكمة لإخلاء سبيلهم، وتمت إحالتها على محكمة الجنايات، والتي رأت أن التهم المنسوبة للمتهمين بالانضمام إلى جمعيات تعمل من دون ترخيص، تعتبر "جنحة"، وليست "جناية". كما كشف رئيس محكمة استئناف القاهرة عن أنه شخصياً طلب من المستشار محمد شكري، رئيس الدائرة التي كانت تنظر القضية بمحكمة جنايات شمال القاهرة، "التنحي" عن نظر القضية؛ نظراً لأن أحد أبنائه، يعمل محامياً في مكتب للاستشارات القانونية، له علاقة بالسفارة الأمريكية. ما الذي يمكن قوله بعد هذا الكلام؟! ألا يشعر أحد بالخزي والخجل؟ ألا يشعر المشير طنطاوي ومجلسه العسكري وحكومته التابعة بالمسئولية تجاه ما حدث؟ ألا يشعر النائب العام بأنه كسر أنوف 80 مليون مصري؟ وما هو مصير القضية الآن؟ هل سيستأسدون على المصريين المتهمين في القضية؟ أم أنهم سيلحسون بصاقهم، وتنتهي القضية كأنها لم تكن؟ وهما خياران مُرَّان مرارة الركوع للأمريكان! ويبقى السؤال الشائك المهم: هل كانت هناك قضية أصلاً؟ أم أن جراب الحاوي لا تنفد ألعابه؟!