في طرابلس، كما في معظم المدن الليبية، لا أحد يجيبك عن الأسئلة الصعبة.. فقط يتذكرون فرحتهم بنهاية القذافي، يكبرون لبعضهم في كل تجمع، يرسمون على الجدران بقايا كراهية ما زالت تسكن نفوسهم، يتحدثون عن مساهمات مناطقهم في إسقاط النظام، لكنهم يسلمون ببطولة مدينة مصراتة, يصفون أبناءها ب"منقذي الثورة" و"حماة الوحدة الليبية"، ناهيك عن كونهم "قتلة القذافي". مصراتة نفسها تتباهى بذلك، وكأنها تحاول أن تنسف من الذاكرة ما قيل قديما عن ولائها المطلق لنظام العقيد، أو كأنها تتطهر من صدى هتاف شهير كانت جماهيرها تردده خلال المناسبات الرسمية بأن "مصراتة هي مصراتة.. تحمي القائد, إنجازاته"، لكن الأهم من ذلك هو إصرار ثوارها على أن يحولوا عطاءهم القتالي إلي حضور سياسي. حين تحاورهم، تجد لدى كل منهم قصة عما قدمه لليبيا، لكن الأهم لديهم هو أن تشاهد بنفسك محتويات متحف أُقيم في مدخل المدينةالجنوبي.. في هذا المكان يستعيد على الأشلم الذي تولى مهمة إرشاد الزائرين العرب، ذكرياته عن الأيام الصعبة التي عاشوها تحت قصف كتائب خميس القذافي، فيشير إلي أسلحة موضوعة على الجانبين، ثم يقول: "كانوا يضربون المدنيين بصواريخ الجراد، قد جمعنا ما تركوه من مدافع, مدرعات, أسلحة لتشهد على صمود مصراتة ووحشية القذافي". يقع المتحف على مساحة تصل إلي 500 متر مربع، ترتفع على بابه أعلام مجموعة دول من بينها قطر والإمارات, وأمريكا, وفرنسا، بينما وضعت في مدخله صورة لصحفي قطري لقي مصرعه خلال المعارك. أما في الداخل، فستجد نحو 1000 صورة لشهداء المدينة، ومعها صور لقيادات عسكرية سابقة متهمة بالتورط في قتل الثوار، تحتها مباشرة توجد مقتنيات القذافي التي يقف الجميع لمشاهدتها، محاولين لمسها دون اكتراث برجاء وضعه الثوار بعدم فعل ذلك. وضعت سيدة، بدا من مفرداتها أنها قادمة من مدينة الخمس القريبة، يدها علي كرسي مُذهّب للقذافي، تأملت سيفا وُجد مع الرجل لحظة قتله، ثم سألت دون أن تجد إجابة من المحيطين بها: صحيح هو فضة بالكامل؟. لم تهتم بمجموعة أوانٍ من الخزف وحذاء مصنوع من جلد الثعبان، بعدما صوبت عينيها تجاه قبعة شتوية ظهر بها القذافي في خطاب ألقاه من فوق قصر الثرايا الأثري في طرابلس. لمست فراء القبعة الثمين، ثم حركت أصابعها على "كابين عسكريين" ظهر بهما العقيد مرارا، فلما انتهت من ذلك أطلقت تعليقا عفويا: "سبحان المعز المذل". مع مقتنيات القذافي المتحف أشبه بسجل ذكريات، لن يجد الصحفيون فيه ما يجيب عن أسئلتهم، خصوصا ما يتعلق بحادث قتل القذافي, التمثيل بجثته قبل نقلها من سرت إلي مصراتة، وهو أمر يمكن تعويضه بتجميع الروايات المتداولة ورسم خطوط عامة للطريق التي سلكها العقيد الراحل بدءا من قلعته في باب العزيزية حتى وصوله إلي موقع قتله في سرت. تقول الرواية الأولى، هي السائدة بين أبناء العاصمة، إن القذافي خرج من باب العزيزية مساء يوم 18 أغسطس بعدما تأكد من تداعي حصونه الأخيرة، حيث اتجه رأسا إلي بني وليد جنوب شرق العاصمة، ومنها إلي سرت، وهناك من يضفي قدرا من الإثارة فيقول إنه هرب عبر نفق يمتد إلي مزرعة يملكها بالقرب من المطار الدولي، حيث تزود بكميات كبيرة من البنزين. يعزز هذه الرواية أن القائمين على سجن أبوسليم القريب من العاصمة، قرروا في الليلة نفسها تصفية المعتقلين فيه وعددهم - على ما ذكر بعض من نجوا في لقاء مع "المشهد"- نحو 300، قتل أغلبهم. كما يعززها أن الطريق إلي المطار أُغلق تماما في تلك الليلة، قبل أن يتبخر رجال القذافي تماما من العاصمة. أما الرواية الثانية، ففيها كثير من الخيال لكنها تتردد بشكل لافت، وملخصها أن القذافي استخدم أنابيب مياه الشرب القادمة من النهر الصناعي العظيم جنوب البلاد كي يصل بموكبه إلي بني وليد، ومنها إلي سرت. والقائلون بهذا السيناريو، ومن بينهم محام شاب يدعى حسام الغرياني، لديهم شواهد مقنعة، منها أن هذه الأنابيب أقيمت بأقطار كبيرة, بطريقة تسمح بمرور شاحنات، وليس فقط سيارات دفع رباعي كتلك التي تحرك بها العقيد الراحل. يستشهد حسام على صحة روايته بأن طرابلس عاشت عدة أيام محرومة من المياه، ما يعني - حسب قوله - أن القذافي أعطى أمرا بوقف الضخ قبل فترة من هروبه، فلما تأكد من جفافها، بدأ في التحرك، غير أن محاميا معروفا في طرابلس هو سعيد الشاوي يتعجب من هذه الرواية, يقول: لماذا يلجأ للأنابيب, شوارع طرابلس كلها كانت تحت سيطرة أنصاره حتى 20 أغسطس! سرت الصامتة في تلك الفترة، كانت مدينة الزاوية التي تقع غرب العاصمة قد سقطت في يد الثوار بعد شهور من الكر والفر مع كتائب خميس القذافي، ومن ثم صار طريق هرب القذافي إلي تونس مسدودا. في الوقت نفسه، كانت مدينة تاجورا المتاخمة لطرابلس من جهة الشرق قد أوشكت على السقوط، ما جعل الاتجاه نحوها انتحارا سيما وقد سبق للرجل أن أهان أهلها قبل أيام من سقوطه. حله الوحيد؛ كان الفرار جنوبا، تحديدا إلي بني وليد التي ظلت مناصرة له حتى نهاية الحرب، لكن القذافي لم يطل المقام بهذه المدينة الصحراوية, اتجه شمالا إلي سرت، حيث قٌتل. بالنسبة له، كانت سرت عاصمته الحقيقية، ففيها بنى مقر حكم مهيب، وفي أراضيها قاد حركة تعمير وتجميل واسعة حولتها من بلدة صغيرة للصيادين إلي أهم مدينة في البلاد. بتعبير رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان ( فرع ليبيا ) الدكتور عبدالمنعم الحر، فقد اعتبر القذافي سرت جزءا منه، حرص على أن تكون مقرا لمؤتمراته, نشاطاته الكبرى، وكأنه يستعد للاحتماء بها عند الضرورة. ومع أن المدينة تبدو شبه خالية منذ سقوط النظام، فإنها تعطي إشارات عديدة على استمرار ولائها للقذافي، فلا كتابات ثورية على الجدران، ولا حديث عن شهداء أو متاحف أو شكر لقطر.. فقط آثار لغارات جوية على المواقع الرئيسية، ومن بينها مبنى "واجادوجو" الشهير الذي بناه العقيد الراحل لإقامة المؤتمرات الكبرى. الوجوه المعدودة التي تراها في سرت، تعلوها كآبة, الكلمات شبه ميتة فوق الشفاه، بينما المحال مغلقة, الشوارع مستسلمة لهدوء تقطعه على فترات سيارات الذين أُجبروا على البقاء وسط الأطلال المهدمة.. تسأل عن مصير أبناء المدينة، فيرد عليك سوداني يعمل محاسبا في شركة خاصة: خرجوا، ثم يستطرد: الصحراء وسعت الجميع اللهم الإ من حاصره ثوار مصراتة ومنعوه من المغادرة، بعد أن قتلوا القذافي. ياتي أحد هؤلاء إلي المطعم الوحيد في المدينة، متوكئا على عكاز، ليأخذ طعامه في صمت ثم يعود إلي سيارته دون أن ترتفع عيناه عن الأرض، ودون أن يلقى ترحيبا يحظى به المصابون مثله في المدن المنتصرة. يحكي السوداني نفسه عن معاناة أسرته خلال الشهر الذي تواجد به القذافي في المدينة، فقد حاصرته النيران من كل جانب، عندما ماتت جارة له بقذيفة طائشة، تسلل مع آخرين في جنح الظلام لدفنها بمقبرة قرب البحر. أما القذافي فقد دخل، حسب قوله، إلي منطقة يطلق عليها الجزيرة بصحبة حراسه، اتخذ منها مقرا لعملياته، فلما حوصر انتقل إلي بناية داخل حي يسمى "سرت 2" ، حيث بقي بضعة أيام خرج بعدها قاصدا بني وليد مجددا.. لكنه لم يتمكن من إتمام الرحلة، فقد اصطادته غارة للناتو، ثم أمسك به الثوار, قتلوه. قريب "القائد" قٌبالة ساحل سرت الراقي، لا يوجد سوى بيت واحد مسكون.. صاحبه قريب للقذافي يعرف أن "الزعيم" قٌتل، لكنه يرفض الاعتراف بالثورة، ويصف القائمين بها بالعصابات المرتزقة، وحين يدعوك لتناول مشروب فتعتذر منه يبادرك بكل حماس: اشرب.. أنت في بلد القائد، ثم يبدأ عرض مأساة مدينته، وكيف تعمد حكام ليبيا الجدد حرمانها من الغذاء, والدواء, والغاز، ثم يسأل: "لماذا لم يزرنا أحد من المجلس الانتقالي حتى الآن؟". (العدد الأول22 يناير 2012)