مع دخول الاتفاق النووي المرحلي الموقع بين إيران والقوى الكبرى في جنيف في نوفمبر الماضي حيز التنفيذ اعتباراً من العشرين من يناير الجاري، بدأت إيران الاكتفاء بتخصيب اليورانيوم بنسبة 5%، ونقل مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، وتجميد أنشطتها في موقعي نطنز وفوردو، إضافة إلى مفاعل المياه الثقيلة في أراك، ووقف تثبيت أجهزة طرد مركزي قرابة 19 ألفاً حالياً في هذه المواقع. كما بدأت وفود من مراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الإشراف على تنفيذ بنود الاتفاق، ثم يرفعون بعدها تقارير للوكالة الذرية لتبدأ الأطراف الأخرى في الاتفاق (الولاياتالمتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) تنفيذ البنود المتعلقة بها والتي تتمثل في تخفيف العقوبات التي تفرضها على إيران. ولعل هذا الواقع الدولي الجديد بات يثير الكثير من التساؤلات بشأن الفرص المتاحة والقيود المفروضة حول مدى إمكانية التوصل في النهاية إلى اتفاق نهائي بين إيران والقوى الكبرى، في ظل إشكاليات متداخلة وحسابات إستراتيجية معقدة لكل أطراف الاتفاق من جانب، وفي ظل بيئة إقليمية وعالمية مغايرة من جانب ثان، وسط تغييرات بنيوية باتت تشكل ملامح النظم السياسية في كثير من دول المنطقة على خلفية ثورات الربيع العربي. وفي واقع الأمر، فإن إيران ستحقق الكثير من المكاسب جراء التزامها بتنفيذ بنود الاتفاق المرحلي، والمتمثلة في حصولها على حوالى سبعة بلايين دولار، بسبب تخفيف العقوبات الغربية على قطاع النفط والبتروكيمياويات والتعاملات البنكية والطيران المدني وناقلات النفط في المياه الدولية وتجارة الذهب والمواد النفيسة وغيرها، فضلاً عن عودة الأموال الإيرانية المجمدة لدى واشنطن والتي ستفرج عنها واشنطن في مارس المقبل، ناهيك عن قرار وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي بتعليق جزء من العقوبات الأوروبية المفروضة على طهران بسبب برنامجها النووي، حيث سيتم الغاء سلسلة من العقوبات الاوروبية تتعلق خصوصا بالنقل وتامين الصادرات الايرانية من النفط الخام وتوريد منتجات بتروكيميائية إيرانية وذلك لمدة ستة أشهر، أي حتى 20 يوليو 2014. وفي إطار قراءة المشهد العام لتطورات مواقف كل الأطراف الفاعلة في توقيع أي اتفاق نهائي لتسوية الأزمة النووية الإيرانية نهائياً، يمكن القول أن ثمة فرصاً قوية للدفع باتجاه التوصل للحل النهائي، وفي نفس الوقت هناك قيود وعقبات تعترض طريق التوصل لأي اتفاق نووي نهائي مع إيران، ولكن قوة التدافع بين الفرص والقيود هو ما يحسم الأمر في النهاية. واقع الحال أن ثمة فرصاً تدفع باتجاه إمكانية التوصل لتسوية واتفاق نووي نهائي بين الغرب وإيران من أهمها، التغير الواضح والعميق في فلسفة وأولويات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط ومشكلاته، وهو ما أقره أوباما في خطابين له أمام الأكاديمية العسكرية الأمريكية في نيويورك: الأول في ديسمبر 2009، والثاني في مايو 2010، ومفادهما أن واشنطن باتت غير قادرة على التورط في صراعات تتجاوز إمكانياتها ومسؤولياتها ومصالحها، كما أنها غير قادرة على المحافظة على حجم تدخل واسع في العالم دون أن يكون لذلك تداعيات كارثية على اقتصادها ورفاهيتها. تعزز هذا المتغير والمعطى الجديد مع إعلان الإدارة الأمريكية في مارس 2012 "للاستراتيجية الأمريكية الدفاعية الجديدة" التي جعلت مجال تركيزها الجيوإستراتيجي منطقة "آسيا والباسيفيك"، الفضاء الهام جدا لاقتصاد أمريكا ومستقبله، وذلك في مسعى منها لاحتواء تصاعد قوة الصين اقتصاديا وعسكريا فيه، في الوقت الذي تجد فيه الولاياتالمتحدة نفسها مضطرة إلى خفض نفقاتها الدفاعية جراء الأزمة الاقتصادية التي انعكست على علاقة أوباما بالأجهزة السيادية للدولة. وقد تزامن هذا التغير في الفلسفة الأمريكية مع انطلاق الثورات في عدد من الدول العربية منذ أواخر عام 2010، والتي عصفت ببنى أنظمة، حليفة وغير حليفة للولايات المتحدة، حينئذ اكتشفت الولاياتالمتحدة محدودية تأثيرها في الشرق الأوسط ضمن نسقه الجديد، في ذات الوقت الذي تعطل فيه توجهها للانسحاب التدريجي من المنطقة لصالح التركيز أكثر على "آسيا والباسيفيك". وتأسيساً على ذلك إرتأت السياسة الخارجية الأمريكية أن الشرق الأوسط ستبقى معضلة في الحسابات الإستراتيجية الأمريكية، فلا هي تملك ذات النفوذ الذي تمتعت به لعقود طويلة، ولا هي في وارد إلى الانسحاب منه، وكما أن الولاياتالمتحدة لم تكن وراء الثورات العربية، فإنها أيضا لم تستطع أن تنأى بنفسها عنها ومحاولة ركوب موجتها وتوجيهها، بل والتلاعب فيها، لئلا تتشكل الخريطة الثقافية والفكرية والجيوسياسية بعيدا عن تأثيرها. وترافق هذا كله مع حقيقة أن العقوبات الخانقة التي فرضتها الولاياتالمتحدة على إيران لكبح جماح برنامجها النووي، ومحاولاتها الحثيثة بالاشتراك مع إسرائيل لتعطيله لم تؤد إلى وقفه، لذا أدركت إدارة أوباما أن استمرار العقوبات لن يؤدي إلى تعطيل البرنامج النووي، وأن البديل سيكون حرباً لا تريدها لكلفتها الباهظة وتداعياتها غير المأمونة. لا شك أن هذا المعطى الجديد في السياسة الأمريكية سيدفع الأمور قدماً نحو التوصل إلى اتفاق نووي نهائي مع إيران يحقق مصالحها الاستراتيجية بعيداً عن الدخول في مناكفات سياسية تلقي بكاهلها على الاقتصاد الأمريكي. من جانبها استوعبت إيران درساً قاسياً مفاده أن الاستمرار في تحديها للغرب سوف يكلفها مزيداً من الضعف الاقتصادي، وأن الحفاظ على مناطق نفوذها التقليدية دون ترتيب مع الأمريكيين سيكلفها الكثير، ولكن الولاياتالمتحدة لم تكن في وارد الانسحاب نهائياً من الشرق الأوسط وإفساح المجال لهيمنة إيرانية على المنطقة، لذلك تسعى واشنطن من خلال التوصل لتسوية نهائية لملف إيران النووي إلى خلق توازن بين قوى المنطقة الرئيسية، وتحديدا إيران وإسرائيل وتركيا والسعودية، بحيث لا يمكن لأي دولة من هذه أن تسيطر منفردة على المنطقة بعيدا عن الحسابات الأمريكية وهيمنتها، بمعنى أنها تريد أن تخلق حالة من التنافس بين هذه الدول، لا تسمح لأي منها أن تملأ منفردة الفراغ الذي تتركه الولاياتالمتحدة جراء الانسحاب التدريجي من هموم المنطقة، للتركيز على إعادة بناء اقتصادها والتحديات العالمية الأخرى التي تواجهها. لكن رغم هذه الأجواء الدافعة لتسوية نهائية للملف النووي الإيراني، إلا أن ثمة قيود وعقبات أمام ذلك وتتمثل أهمها في: أولاً: أن هناك كثير من التفاصيل ما زالت بحاجة إلى اتفاق، وهناك التيارات المتشددة في الولاياتالمتحدة، وخصوصا في الكونجرس من الحزبين من حلفاء إسرائيل. كما أن هناك حلفاء أمريكا الغاضبين في المنطقة، وتحديدا السعودية وإسرائيل ممن يسعون إلى إفشال أي اتفاق نهائي محتمل. ثاني القيود والعقبات تتمثل في استمرار إيران في ممارسة "سياسة الاستعلاء" على الغرب وهو ما بدا واضحاً في تصريحات المسئولين الإيرانيين بأن الغرب قد رضخ لمطالب طهران. أما ثالث القيود والأهم والأخطر هو إصرار إيران على حقها في تطوير أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً لتخصيب اليورانيوم، وهو ما أكده علي أكبر صالحي رئيس الوكالة الايرانية للطاقة الذرية متعللاً بأنه ليس هناك أية قيود بشأن بحث وتطوير أجهزة الطرد المركزي في الاتفاق المبرم في 24 نوفمبر الماضي مع "مجموعة 5+1"، وأنه لا يمكن للدول الغربية أن تطلب من إيران وقف "التقدم" في المجال النووي، فضلاً عن ذلك تشير تقارير إلى أن ثمة مسائل عالقة بين الجانبين، أحد أهم هذه المسائل يتعلق بالاجيال الجديدة من أجهزة الطرد المركزي الايرانية لتخصيب اليورانيوم. في حين يمثل الموقف الإقليمي عامة والإسرائيلي خاصة عقبة وتحدياً أمام إمكانية التوصل لاتفاق نهائي بشأن النووي الإيراني، إذ ثمة رؤيتين في الوقت الحاضر لقضية إيران النووية؛ الأولى والتي تتبنى موقف إسرائيل من هذه القضية وهي تطالب بوقف نشاطات إيران النووية وتفكيك مفاعلاتها بشكل كامل وتتهم طهران بالسعي لحيازة أسلحة نووية، والرؤية الأخرى والتي يقودها التيار المهيمن في أمريكا وهي ترى أنه لا بد من الإذعان للأمر الواقع والقبول بإيران نووية بشكلها الذي هي عليه الآن، ويعتقد أصحاب هذه الرؤية بأن عدم القبول بهذا الواقع سيدفع إيران إلى زيادة نشاطاتها النووية في المستقبل. ويبقى التأكيد على أن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تغييرات بنيوية، سواء على صعيد صفقة دولية (أمريكية روسية)، أم على مستوى صفقة (أمريكية إيرانية) نهائية محتملة، وإسرائيل لن تكون بعيدة أبدا عن بنود وتفاصيل هذه الصفقة التي ستحفظ لها مكانتها المتفوقة في المنطقة ك " وكيل أمريكي" موثوق فيه.