“فى الراديو يا فاطنة يقولوا: بنينا السد.. بنينا السد لكن ما حدّش قال: السد بناه مين بنوه كِيف نايمين ولّا قاعدين! بينما ترد عليه زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار التى تريد أن يعود لها بعد أن طالت غيبته عليها قائلة: أهى هيّه هيّه الحدوتة مش كنت هنا بتزرع فى أراضى الغير وآخر الحُول تكون اتهدّيت والغير ياخد الخير؟ عندك نفس القصة يا حراجى صدّق فاطنة وتعال هات الرجّال وتعال لو راح يدّوك كانوا ادولك همّا ما عاوزين منك يا حراجى غير حيلك لميتَى حنقعد عُبطه كده يلعب بدماغنا دِيَّتى وده” بهذه الكلمات صدّر الخال عبدالرحمن الأبنودى واحدًا من "جوابات حراجى القط"- ديوانه الأشهر والأغرب إذ أنه عندما طلب منهم الخال أوراق الديوان وأبلغهم أنها لا تحوى سوى أشعاره رفضوا، وقالوا له “دا شعر شيوعى”! يومها اعتبر الأبنودى أنه لم يكتب هذا الديوان، وأن “حراجى” انتهى إلى غير رجعة، خصوصًا أنه لم يكتب أبدًا أى قصيدة مرتين؛ لذلك حاول أن يقنع نفسه بأنه لا توجد قصيدة اسمها “حراجى”، وبعدما خرج من السجن، وحدثت النكسة سافر إلى السويس واستقر هناك. لكن فى عام 1969 حدث تغيُّر أعاد “حراجى” إلى الحياة. وقتها كان السد العالى هو حديث مصر بأسرها، وأملها الباقى بعد النكسة فى إعادة الأحلام التى قضت عليها 5 يونيو، وكان الأبنودى يرى أن هذا المشروع يمكن أن يُغيّر وجه مصر إلى الأفضل والأجمل، فقرر زيارة السد، والكتابة عنه. فذهب بصحبة صديقيه سيد خميس، وسيد حجاب لزيارة وزارة السد العالى حيث كانت فى نفس الشارع الذى يسكن فيه الأبنودى، وكان وقتها سيد حجاب قد نشر قصيدة جديدة فى “الأهرام” (فى مربع صلاح جاهين) وعندما وصل الثلاثة إلى الوزارة وجدوا الموظف المسئول عن رحلات السد فى الوزارة، ويُدعى “حسنى أمين” (ما زال صديقا للخال حتى الآن) محتفظا بقصيدة “حجاب” تحت زجاج مكتبه، فعندما شاهدوا ذلك، قالوا “كده ضمنّا إننا هنروح السد العالى مرتاحين”. لكن عندما طلبوا من الموظف الذهاب إلى السد العالى ليكتبوا عنه، قال لهم: “لا تتفاءلوا كثيرا إحنا مش فى الاتحاد السوفيتى الذى يُرسل الشعراء والكُتاب إلى المشاريع القومية، وأنصحكم بألا تحاولوا مرة أخرى، فلن تذهبوا”. وبالفعل تم رفض الزيارة، فعاد الثلاثة، وقد خاب مسعاهم. لكن الخال لم ييأس، وقرر أن يكرر المحاولة مرة أخرى، ولكن عن طريق آخر، وهو أن يذهب بنفسه وعلى نفقته الشخصية كأى مواطنًا بسيطًا يريد أن يذهب ليرى واحدًا من أكبر مشاريع بلده على مدار تاريخها، فذهب إلى محطة القطار، وقام بحجز تذكرة سفر إلى أسوان، وسافر بالفعل حين كانت الرحلة تستغرق يومين فى الطريق، وبمجرد أن وصل إلى مدينة أسوان سأل عن الطريقة التى يذهب بها العمال إلى السد العالى. وبعد ساعات قضاها الأبنودى فى رحلته من مدينة أسوان إلى السد العالى واضطر خلالها إلى الاستعانة بأكثر من ثلاث وسائل مواصلات، وصل أخيرا. وبمجرد وصوله سأل عن المكان الذى يقيم فيه العمال القادمون من قرية أبنود للمشاركة فى بناء السد، فدلّوه على المكان. ويروى الخال ما رآه هناك بقوله: عندما وصلت إلى مكان عمال أبنود وجدت العيال اللى كانوا معايا فى المرعى، وقد كبروا ويعملون فى السد، فى مكان لم يطرق من أيام الفراعنة، وقعدت معاهم فى السد نحو 17 يومًا، وكان أكلنا اليومى “المِشّ”، وجبتلهم لحمة مرتين، وكان بيكون معاهم بصل وثوم وملوخية ناشفة وطماطم ناشفة وحِلل، ولم يكن طبعًا فيه “استحمام”، فكانوا يملأون صفيحة مياه من النهر ويغتسلون بها، وينتظرون ملابسهم حتى تجف، لكنى وجدت أن العمل قد غيّرهم، وأثّر على لهجتهم. ويستطرد الخال: بعد تجربة إقامتى فى السد العالى، تذكرت “حراجى البِسّ” صديقى فى الطفولة الذى كان معى فى أبنود، وقلت لنفسى لو “حراجى” كان هنا مكان أى واحد من الرجالة دى، هل كان هيتغير؟، فقلت أجرّب أنقله إلى هذا المكان حتى لو على الورق، خصوصًا أن حراجى لم يرَ السد العالى، ولم يذهب إليه أبدًا! ويفسر الخال سر اختياره ل”حراجى” ليكون بطلا لديوانه بقوله: “حراجى” نسبة إلى الأرض “الحَرَجة”، وقد كان عريضا وضخم الجسم، وكنا نلعب معًا، ولكن لعبه كان عنيفا بسبب جسمه، وكان من يأخذ “خبطة” من حراجى تعلّم فى جسمه ثلاثة أشهر، ولكن حراجى كان عنده “شوية هبل”؛ لذلك أردت من خلال شخصيته أن أرسم سذاجته الجميلة التى تصورتُ شكلها بعد أن تأثرَت بالماكينات الحديثة”، فيقول لزوجته: لكن المفاجأة أن الخال رأى “حراجى” بعد أن كتب ملحمته، فقد التقى معه فى نهاية الستينيات بالصدفة. فقد كان يقود الخال سيارته فى منطقة “شندورة” على القنال، وخُيِّل إليه أنه شاهد “حراجى”، فعاد بالسيارة إلى الخلف، وتأكد أنه هو فعلا، وأراد أن يعرف إذا كان ما زال ساذجا على حاله أم لا، فنادى عليه، وقال له: اركب فى الكرسىّ اللى ورا هوصلك بيتك. فصعد “حراجى” إلى سيارة الخال، لكنه وجد أنه لا يسير فى طريق بيته. فصاح “حراجى” قائلًا: “مودّينى فين يا بيه” فقاطعه الخال: “اسكت خالص وانزل، أنت جاسوس بتشتغل لحساب إسرائيل”! فبكى “حراجى” لكنه عندما نظر فى وجه الأبنودى ضحك، وعانقه بشدة وكانت آخر مرة يرى فيها الأبنودى، حراجى الذى لم يعمل فى السد العالى إلا من خلال ملحمته “جوابات حراجى القط”.