إن ما يمكن تسميته افتراضيًا "حرب الميادين" التي اختزلت حاليًا ما بين "التحرير" و"العباسية" والتي تشهدها مصر حاليًا هى نتاج حالة من الارتباك والتخبط من جانب المجلس العسكري الذي اعتبر نفسه "مجلس قيادة الثورة" ونسى أو تناسى أن ثوار التحرير هم أصحاب الثورة المسروقة وأنهم الأحق بها وأن الشهداء والمصابين كانوا بين صفوفهم. "حرب الميادين" الافتراضية لها أسبابها المعروفة ولكنها اشتعلت في اعتقادي نتيجة "لغم" جاء خلال كلمة المشير طنطاوي الأخيرة للشعب المصري، وتتلخص في كلمات محدودة ولكنها كانت بالغة التأثير، تمثلت في "استعداده لإجراء استفتاء حول عودة الجيش إلى ثكناته". فهذه الكلمات مثلت طوق نجاة لفلول النظام السابق الذين وجدوا فيها دعوة للتحرك واستعراض عضلاتهم أمام ثوار ميدان التحرير، واعتبروا أنها فرصة سانحة للقضاء على ما تبقى من روح الثورة واستعادة قواعدهم السابقة ومواصلة عمليات النهب والنصب وسرقة خزائن الدولة. الأمر ببساطة لن يكلفهم إلا حشد بضعة آلاف في العباسية وشحذهم واللعب على وتر العواطف، مستغلين التعاطف الشعبي الأزلي والطبيعي مع الجيش المصري العظيم. وكانت النتيجة بالطبع هي حالة الانقسام والتفتت الحالية بين عناصر الأمة ما بين التحرير والعباسية. وهي الحالة التي أعادتني بالذاكرة إلى اللغم الاستفتائي الأول الذي جرى في مارس الماضي عقب الثورة والذي أدى إلى تفتيت البلاد وتقسيمها ما بين "نعم" و"لا"، بعد أن كان الجميع قد خرجوا لتوهم من الثورة على قلب رجل واحد، تسودهم مشاعر الوفاق والوئام والتطلع نحو أمل لاح أخيرًا نحو دولة ديمقراطية قائمة على الحرية والعدل والمساواة. هذا الاستفتاء لازلنا نعاني حتى الآن من أثاره البغيضة، بعد أن نجح بجدارة في شق صفوف الأمة. الاستفتاء الذي أشار إليه المشير طنطاوي في خطابه الأخير سيؤدي لا محالة إلى فتنة يعلم الله وحده تداعياتها الخطيرة، وهو بمثابة صب البنزين على النار الملتهبة أصلاً والتي كنا بحاجة إلى كلمات حكيمة وقيادة سياسية واعية لإخمادها بدلاً من تأجيجها وإشعالها. هذا الاستفتاء يحمل في طياته خيارين كلاهما مر بطعم الحنظل. ولنفترض أن الاستفتاء أسفر عن "نعم"، هل سيعني ذلك تفويض شعبي للمجلس بالبقاء في السلطة إلى ما شاء الله نزولاً على إرادة وأغلبية شعبية. عندئذ سيكون لدى المجلس مبرر قانوني وشرعية شعبية وأسانيد مطلقة للتمسك بالسلطة بما يعنيه ذلك من فرض لديكتاتورية مستندة إلى قبول شعبي. أما الافتراض الثاني فهو أن يسفر الاستفاء عن "لا" أي تخلي المجلس عن السلطة، والسؤال هنا هو من لديه القدرة حاليًا على تسلم السلطة من المجلس والوصول بالبلاد إلى بر الأمان؟ وهل سيعني ذلك أن الأغلبية الشعبية تناصب المجلس العداء ولا تريده؟، وبالتالي سيرفع الجيش يده وينفضها تمامًا عن حماية الثورة بعد أن كان حامي حماها.. ؟. هى بالتالي حالة لا نريد الوصول إليها، فالجيش المصري له مكانة خاصة في قلوب المصريين، والشعب المصري يقدر وطنية الجيش المصري ودوره التاريخي في حماية الوطن داخليًا وخارجيًا. ولكن ما الدافع وراء طرح المشير لفكرة الاستفتاء؟ هل هو شعور المجلس بأنه فقد رصيده لدى الشعب أم أنه يريد إعادة شحن رصيد نفذ ولم يعد موجودًا؟!! وما أن انتهى مفعول اللغم الاستفتائي الثاني حتى فوجئنا بلغم من نوع مختلف تمثل في قرار المشير طنطاوي بتعيين الدكتور الجنزوري رئيسًا للوزراء في عناد لا ينافسه فيه إلا الرئيس المخلوع مبارك. فقد جاء التعيين بمثابة صفعة قوية لثوار التحرير الذين أصروا على استرداد ثورتهم المسروقة عبر ترشيح أسماء وشخصيات قادرة على تنفيذ طموحاتهم الثورية. فالجنزوري مهما كان خلافه مع مبارك لكنه جزء لا يتجزأ من النظام السابق، بل كان على رأس الحكومة التي كان حبيب العادلي وعاطف صدقي وزيرين فيها!!. ثم إن الجنزوري نفسه لم يزعم أنه لعب دورًا في الثورة أو أنه دعمها قولاً أوفعلاً. فقد بدأ الجنزوري في نظر الثوار أنه ليس رجل المرحلة الثورية الحالية. لقد بلغ الجنزوري من العمر أرذله ولم يعد بنفس القدرة الذهنية والعملية التي كان عليها حين كان وزيرًا للتخطيط ورئيسًا للوزراء منذ أكثر من عقد، وقد بدأ ذلك بوضوح أثناء مؤتمره الصحفي الذي عقده عقب تكليفه. إن طبيعة الحالة الثورية الحالية تستلزم ايقاعًا سريعًا وفكرًا ثوريًا يتماشى مع تطلعات وطموحات الثورة، والجنزوري أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية، يفتقر بحكم السن إلى هذه المواصفات، رغم أنني على ثقة من أن غالبية المعارضين لتعيين الجنزوري يعتبرونه رجلاً وطنيًا مخلصًا ويحظى بالاحترام. ندعو الله أن تكون هذه هى آخر الألغام وأن يقي مصر الحبيبة من تداعياتها وشرارها وشرورها. ندعو الله ألا يأتي اليوم الذي يسأل فيه المصريون بعضهم البعض "أنت "تحرير" ولا "عباسية"؟!! على غرار السؤال الشهير أنت أهلاوي ولا زملكاوي؟.