تقع الكثير من الصحف والفضائيات، بل والعديد من منظمات المجتمع المدني والجماعات، فريسة للتمويل، فتصبح أسيرة للممول أياً كان اتجاهه، تروج لفكره و«تخدّم» على بضاعته، والمتابع لما يكتب في صحف رجال الأعمال والبرامج التي تعرض على شاشاتهم يجد انحيازاً شديداً لتيار ما، ومحاولة لتوجيه الرأي العام تجاه قضايا معينة، تجدها في معظم الصحف وفي برامج «التوك شو»، كأنما قد اتفقت في ما بينها على شيء واحد، وتجد ضيوف البرامج هم أنفسهم يتنقلون بين القنوات ليقولوا الكلام هو هو. كل ذلك يحدث على حساب المصداقية ودون أي اعتبار للقارئ والمشاهد، لأنها تنطلق من رؤية فردية فتأتي جميع أخبارها وتحليلاتها «تعبيرية»، فتدقق في اختيار ألفاظها لتحمّلها من المعاني ما لا يحتمله الخبر، وتتخير عناوين أخبارها لتؤكد معنى دفيناً داخل عقل ووعي رئيس تحريرها. الأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى ولا يكاد يمر يوم إلا نجدها تملأ صفحات الجرائد، فمنها استخدام ألفاظ من قبيل «السيطرة والاستحواذ» عند الحديث عن انتخابات يفترض أن تكون نزيهة وتحت إشراف قضائي كامل، وطبيعي أن يسعى كل فصيل سياسي من خلال انتخابات نزيهة لأن يحصد أكبر عدد من المقاعد، فهذا حقه، لكن استخدام لفظي «السيطرة والاستحواذ» يلقي في قلب القارئ الرعب والفزع من هذا الفصيل، وهذا هو المطلوب. ومن ذلك أيضاً كلمات «التحذير والتهديد»، للوقيعة بين فريقين مثلاً، فيقال «الجماعة تهدد الجيش» و«الاخوان يحذرون المجلس»، وهي عناوين مستفزة تثير الاشمئزاز، بخاصة عندما تطالع الموضوع فلا تجد تهديداً ولا تحذيراً، وإنما مجرد تنبيه أو نصيحة. وعند وفاة سجين أو معتقل، وقد تكون هناك مجرد شبهة جنائية، والتحقيقات جارية، تجد الصحف تستبق الأحداث فتصدر الحكم وتطلق الألقاب - وقد يتبين صوابها أو خطؤهاً لاحقاً - فهذا «شهيد طرة» و«قتيل التعذيب وأمن الدولة»، ثم يكتب السادة الكتاب المحترمون في مقالاتهم دون تحري الحقيقة والدقة، ليجزم أحدهم بأن فلاناً مات من التعذيب، ثم يبدأ في التنظير وتأجيج الفتن وليس عنده من دليل. وغير ذلك كثير. خلاصة القول أن هذه الصحف وقعت في «مأزق التمويل»، ولا يخفى على القارئ ذلك، فهذه الصحيفة ملك فلان، وتلك القناة يملكها آخر، فتفقد يوماً بعد يوم من رصيدها، وتتخلى بذلك عن صفة الاستقلالية التي تحملها، فهي ليست صحافة حزبية تنتصر لحزبها، وتدعم اتجاهه الحزبي، وإن كانت كذلك فهو حقها وهي بذلك تلبي الغرض الذي من أجله أنشئت، لكن أن يكون ذلك هو سلوك الصحافة المستقلة، فهذا ما يثير غضب القراء، ويبدو ذلك واضحاً من تعليقاتهم على الأخبار في المواقع الإلكترونية لهذه الصحف. لذلك كانت تجربة «المشهد» فريدة، حيث استطاعت الفكاك من أسر التمويل، والتغلب على المشكلة التي تعانيها غالبية الصحف، ولم تخضع لفكر أحادي، فكان تمويلها ذاتياً من مجموع صحفييها، وضمت أصحاب تيارات مختلفة ما بين ليبرالي وإسلامي ويساري، والمتتبع لجريدة المشهد يستحيل عليه أن يتبين تياراً مسيطراً أو تحيزاً من أي نوع، فتجد الخبر مجرداً يخاطب عقل القارئ ويترك الحكم له، واستطاع «رجال المشهد» أن يتخلصوا من «مأزق التمويل» الذي وقع فيه كثيرون، فتحلت الصحيفة بالمصداقية والاستقلالية الحقيقية. وغدت الخطوط الحمراء بالنسبة إليهم هي ضميرهم المهني، والرغبة في التميز، وتقديم صحافة راقية، تبين الحقائق لا غيرها، وتكون بصر القارئ وسمعه..