"ما تمنيت لمعمر القذافي أن يموت تلك الميتة الفظيعة مضرجاً بدمه ويصيء كجرذ في فخ". الفقرة السابقة بدأت بها تعليقي على قتل القذافي في 22 من هذا الشهر، وكنت أعتقد أنني وحدي لم أتحمل أن يتوسل العقيد آسريه للإبقاء على حياته وهو يُشتَم أو يُهان أو يُصفع، ويُجرّ خارج الجحر الذي لجأ إليه بعد أن اتهم الثوار الليبيين بأنهم جرذان وفئران. منذ ذلك اليوم التاريخي، أو يوم تحرير ليبيا، وأنا أراجع تعليقات على قتل القذافي وأجمع بعضها، وأعترف بأنني سررت بأنني لم أكن وحيداً في استنكار قتله بطريقة بشعة، فكتّاب كثيرون، في الغرب وفي بلادنا، استنكروا مثلي، والعدالة كانت تقضي أن يُعتقل ليحاكم، فقد يعرف أهالي ضحاياه الكثيرين من المحاكمة، مصيرَ الأب المختفي أو الزوج أو الابن. رفضي أن يُقتل لا يعني أنه بريء، فهو بقي بريئاً لأشهر معدودات بعد انقلاب 1/9/1969، عندما زاد أسعار النفط وكسر احتكار الشركات المنتجة، ثم انتكس، وسقط من حضيض إلى حضيض. ولعل رحيل الرئيس جمال عبدالناصر سنة 1970 كان الفاصل المرحلي الذي قطع علاقة «الأخ العقيد» بالواقع، فبنى عالماً خيالياً من نسج عقله المريض كان ضحيته شعب ليبيا كله. الضحايا الآخرون شملوا أولئك المواطنين الذين حوكموا في ملاعب الكرة والميادين في السبعينيات والثمانينيات، وأُعدموا من دون ذنب. ولعل بعضهم انتهى ودمه يغطيه وهو يتوسل للإبقاء على حياته، كما فعل معمر القذافي بعد ذلك. ثم لا ننسى الذين اختفوا، وعندي منهم السيد موسى الصدر، فقد كنت أعتزّ بصداقته وعلمه، ووزير خارجية ليبيا الأسبق منصور الكيخيا، الذي خُطف من القاهرة واختفى في ليبيا. ولا احتاج أن أطالب الحكم الجديد بالسعي لمعرفة مصير هذين الصديقين والمختفين الآخرين، فهناك جماعات محلية ومنظمات عالمية تطالب بذلك، ولا بد من أن نعرف السر عاجلاً او آجلاً. والآن منظمة مراقبة حقوق الانسان تقول إنها عثرت على 53 جثة الأرجح أنها لأنصار للقذافي قَتَلَهم الثوار. أحذِّر الثوار من ارتكاب الجرائم ذاتها التي ثاروا على مرتكبيها. أول مرة رأيت العقيد القذافي كانت في بيروت سنة 1970، قبل وفاة عبدالناصر، وآخر مرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2009، عندما تحدث أكثر من ساعة بدل ربع الساعة التى تعطى لرؤساء الدول، ومزَّق ميثاق الأممالمتحدة وهذى ما شاء له الهذيان. وصدَّق معمر القذافي في النهاية كِذْبتَه أن الليبيين يحبونه، وبقي يصدقها حتى وهم يحاربونه حتى قتلوه. ولعل الإجماع الوحيد الذي حققه القذافي في حياته هو الإجماع الليبي على معارضته، كما رأينا في فرحة الشعب برحيله. رحيله يمثل نهاية وبداية، نهاية 42 سنة من جاهلية الحكم، وبداية عهد جديد أرجو أن يكون متنوّراً. مستقبل ليبيا في أيدي الليبيين قبل أي طرف آخر، والحكام الجدد من الشعب، وفي حين أن التحديات كثيرة وكبيرة فإن الحلول متوافرة وممكنة. اليوم هناك قبائل وأحزاب سياسية علمانية وجماعات دينية تراوح بين المعتدل والمتطرف، ومثقفون أو قادة فكر، أكثرهم من اليسار العربي، ورجال أعمال وسلاح في كل مكان (مثل اليمن، حيث قلت بعد فوز توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام مع امرأتين من ليبيريا، إنه لن يفوز يمني في مئة سنة بالجائزة، فكل بالغ هناك خنجره على وسطه). مع ذلك، يستطيع المواطن الليبي أن يجد أمامه مستقبلاً واعداً، فأساس الاقتصاد متين، والدول الغربية ستظل تتنافس على شراء النفط الليبي، فأرجو من الشعب ألا ينسى تلك الدول التي تعاملت مع القذافي وسكتت عن جرائمه بحق شعبه طلباً للنفط، وإلى درجة إرسال المعارضين إلى بلادهم ليعذَّبوا، مع خطر أن يُقتلوا. ولعل قرار «المجلس الانتقالي» المشاركةَ في مؤتمر لشباب اليمن ومصر وتونس، بداية موفقة لصوغ مستقبل جديد مشترك. الموضوع في منتهى الجد، ومع ذلك فقد ترددت على الإنترنت نكتة تسأل: أيُّ القادة العرب في «النهائي» بعد قتل القذافي. عندنا في بلادنا مثل شعبي ذائع: هو «ما مِتتْ ما شفت مين مات»، وأرجو أن يكون في موت القذافي وازع للآخرين وعِظة كافية. ------------------ عن صحيفة "الحياة" اللندنية