الثانية بعد منتصف الليل وصوت ارتطام أمطار خفيفة على زجاج نافذة الغرفة عبر فتحات الشيش المكسورة ومواء قط لا ينقطع خارج الشقة فى سكون عميق. قام الحاج إسماعيل من النوم فى غرفته الضيقة وحيدًا كعادته منذ سنوات طويلة بعد أن تركت له زوجته طفلين ورحلت إلى ربها.. متقطع الأنفاس يتصبب العرق ثم جلس على سريره النحاسى القديم مكفهر الوجه بعد أن تأكد أنه وقع من فوق حصان الحياة وانقطع لجام السنين خاوى القوى منهار العزيمة. ثم خرج من الغرفة بعد ان ارتدى ملابسه ووقف أمام صور أحفاده مليئًا بالحزن والحنان ثم مشى حتى باب الشقة والتفت يودع أركانها التى تحفظ حكاياته معها طوال السنين فلم يكن يعلم عند دخوله اليها انه سيخرج هاربا فارا من قلوب ابنائه .. لقد سمعهم خلف باب غرفتهم بالأمس يقررون عزله عن الحياة وارساله إلى ظلال الجحود ودفء النكران وجنة البعد.. إلى دار المنسيين بعد ان زوجهم فى شقته الواسعة فطمعوا فى غرفته الضيقة وطبق طعام لرجل فى السبعين. خرج الحاج إسماعيل من أيامه التى عاشها واغلق الباب خلفه ثم نزل على السلم المظلم الامن ضوء خافت يأتى من شراعة زجاج احدى الشقق وهو يتذكر هذا السلم فى ايام الأفراح وطلوع العرسان فى زفة وورود ونزول الراحلين فى صراخ وعويل وزغاريد نجاح الأولاد وشربات العودة من الحج واصوات الصيجان فى اواخر شهر رمضان تذهب الى الفرن وضجيج الأطفال فى صباحج العيد والتفاف الجيران على جار لهم ذهبوا به الى المستشفى وتبادل اطباق الطعام بين الجيران ورائحة البيت المليئة بالحب والونس ثم خرج من البيت وهو يسمع صوت انفاسه يعلو ويهبط فوقف ينظر حوله فى ضيق محدثا نفسه فى صمت: أين هذا الحىعندما كنت صغيرا؟ الحوانيت ذات الابواب الخشبية والبلكونات المليئة بضحكات الريحان وقصارى الزرع وجلوس الر جال أمام البيت فى الصيف وحاياتهم القديمة وأعمدة النور بأشعتهال البيضاء.. لون الصدور وثرثرة النساء التى تأتى من أحواش المنازل الواسعة واجتماعهن فى بداية الشتاء لعمل "المفتقة" لاولادهن وإصرارهن لعمل جمعية لإحداهن لأنها فى ضائقة مالية وأجزاخانة أم عبدالله المليئة بالميكوكروم والشاش وصبغة اليود لأولاد الحارة الاشقياء وسفر أحلام البنات وهن واقفات فوق الاسطح وفى الشرفات وزهوة الشباب ومرحهم عند ناصية الشارع تحت شجرة الكافور العالية وعودة الأطفال متعبين بعد سفرهم مع أساطير الجارة النوبية العجوز فى أمسيات الصيف. ثم مشى الحاج إسماعيل متلفتًا خلفه بين الحين والآخر حتى وصل إلى الميدان الكبير بمبانيه الكلاسيكية الحزيمة المهملة وأشعة أعمدة النور الصفراء المقبضة. كان الميدان خاليًا من المارة إلا من صوت أزيز الماء إثر ارتطام عجلات السيارات المارة على إسفلت الطريق الغارق فى الماء وبجانب رصيف الميدان تقف سيارة ميكروباص قديمة متهالكة وطفل يرتدى قبعة وهو معلق على باب السيارة ينادى. فتقدم الحاج إسماعيل وكان آخر راكب فدلف داخل الميكروباص وكأنها تنتظره منذ سبعين عامًا.. مشت السيارة بطيئة فى ظلام المدينة غير المبالية بعد أن انطفأت اللمبات المعلقة بأعمدة الكهرباء المتهالكة بسبب الامطار وكأنها تنسحب من المعركة مهزومة منكسرة والسماء زرقاء داكنة متراكمة كأنها أدخنة انفجار مدوٍ. نظر الحاج إسماعيل إلى الركاب فى رعشة وشرود فلم يعد يسمع شيئًا.. لقد غابت الأصوات فقط.. همهمات المنادى وحركات الأيادى ولشفاه.. وبعد فترة من السكون انفلق الصمت إثر تهاوى الأصوات على السائق فتنحى بالسيارة إلى جانب من الرصيف لينزل بعض الركاب.. تناولوا الحاج إسماعيل من الميكروباص وأجلسوه على الرصيف مستندًا تحت شجرة وصدره يعلو ويهبط مخرجًا صوتًا كصافرة قطار يستعد للرحيل محاولين إسعافه بشتى الطرق ولكنه ظل مبتسمًا ينظر إلى المنادى الصغير وهو ممسك بأوراق نقدية فى يده ثم رفع عينيه إلى السماء وهو يرى ولديه الضغيرين يركبان على ظهره وهو ساجد يصلى وهما يرتميان فى حضنه فرحين بسماع نتيجة امتحان آخر العام وهو يعطيهما النقود من قلبه فى الصباح حينما يرتديان زيهما العسكرى أثناء تاديتهما فترة الجيش وهو يرقص فى ليلة عمرهما وسط ابتسامات العيون وحسدهم. ثم توقفت عيناه وارتمى بجانبه على الأرض فنظر الركاب بعضهم إلى بعض فى ذهول وخوف ثم هرولوا جميعًا إلى السيارة التى هربت مذعورة خائفة تأكل الأرض.. ولكنه سمع قرع نعالهم وهم يهربون.