* صحافة مواطن مصر مبتلاة منذ القدم وآخر ابتلاءاتها كانت مجموعة الضباط التي حكمت البلاد بالعقلية العسكرية السطحية. وهنا أعني أن المشكلة لم تكن في الخلفية العسكرية أو الانتماء العسكري للحكام الذين تعاقبوا على حكم مصر منذ قيام الانقلاب العسكري الذي تحول إلى ثورة بدعم شعبي بعدها تمكن من وصلوا إلى سدة الحكم من العسكر من الدفع في البلاد في اتجاه الفاشية وتعبئة الشعب وحشده لتحقيق أهداف خدمت مصالح ما سُمي بمجلس قيادة الثورة الذي ترأسه جمال عبد الناصر، لا أعني حكم العسكر في المطلق فالمشكلة الحقيقية في العقلية لا الانتماء. إذن المشكلة ليست في العسكر، بل في العقلية المتحجرة التي تمتلك زمام الأمور في المؤسسة العسكرية. واليوم وبعد تجربة حكم عسكري استمرت لما يزيد على ستة عقود، يجب أن تكون لنا وقفة نطلع من خلالها على تجارب المؤسسات العسكرية واختيار أحد هذه التجارب للسير في ضوءه. فعندما انتهى جوستاف لوبون من تأليف كتابه روح التربية الذي أعده أحد أهم المراجع التربوية التي أرست قواعد التعليم الحديث الذي دفع بالكثير من دول العالم إلى مصاف الدول الأكثر تقدمًا إلى الحد الذي أصبحت عنده تحكم العالم، لم يكن في حسبان لوبون أن كتابه سوف يصل إلى هذه الدرجة من الأهمية حيث قال عن نفسه وكتابه أنه مؤلف أصدر كتابًا سوف يوضع على أرفف المكتبات في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والتعليمية. استمر هذا الوضع حتى قرأ الكتاب أحد جنرالات الجيش الفرنسي الذي لم يكتف بقراءة ما جاء فيه، بل بدأ بالفعل في استقاء منهيجية تعليم متميزة من الكتاب أدت إلى إحداث تطور هائل في العلوم العسكرية الفرنسية انعكست على أداء الجيش. الشاهد فيما سبق أن الجيوش أو من نسميهم بالعسكر ليسوا شياطين أو مجموعة من الأشرار بالفطرة، بل تحدد الشعوب كونهم كذلك من خلال تعاملها مع المؤسسة العسكرية. ولدينا هنا في مصر ذلك الشعب الذي لا يكفيني أن أصفه بالطيب أو الأصيل أو غير ذلك من الصفات والخصال الحميدة لأنني لابد وأن أضيف أنه شعب فهلاوي انتهازي كسول ومتواكل يريد كل شيء في شيء واحد. فشعب مصر يتعامل بشكل براجماتي انتهازي في بعض الأحيان مع المؤسسة العسكرية وحتى يريح هذا الشعب نفسه من عناء إحداث توازن بين السلطة المدنية والمؤسسة العسكرية، وهي المعادلة الصعبة التي قضت أكثر دول الديمقراطية عقودًا طويلة للوصول إليها، وبدلًا من هذا العناء، اختار الشعب المصري أن يلقي المسئولية على عاتق شخص واحد يمسك بزمام السلطة المدنية ويدير المؤسسة العسكرية في نفس الوقت مما أدى إلى توغل العسكر في كل المجالات وأصبح وجودهم كالملح في الطعام في البلاد. ولسنا بصدد الحديث عن هذا الآن حيث نريد الوصول إلى وضع مصر على أول الطريق نحو تحقيق المعادلة الصعبة من خلال توجيه الجيش أو المؤسسة العسكرية الوجهة الصحيحة وتكليفه بالمهمة الحقيقية التي يجب أن يقوم بها وتغيير الوضع الحالي لتلك المؤسسة من دولة داخل الدولة إلى مؤسسة تحمي المواطن وأمنه بالداخل والخارج. ولن يتأتى ذلك إلا بأحد أمرين، الأول منهما هو الرضا بالوضع الحالي والبناء عليه من خلال تغيير جذري في عقيدة الجيش نحو الإيمان بأن وظيفة الجيش هي حماية المواطن الذي يدفع رواتب جنوده وقياداته وتسخير كل إمكانات القوات المسلحة لصالح هذه الحماية حتى ولو كانت حماية المواطن من نظام شرعي أتى إلى السلطة بالانتخابات. فلابد للجيش أن يدعم حياة المواطن قبل حريته وحريته قبل قوته وقوته قبل ملبسه ومسكنه. فإذا أراق النظام الشرعي المنتخب دماء المصريين فلا شرعية له وتكون الكلمة للجيش كما حدث في تونس ينزل إلى الشارع لحماية المواطن ويسلم السلطة ولو بشكل مؤقت لمن يثبت أنه مع المواطن ويعمل بالسياسة من أجل الدفاع عن الحقوق، وهو أمر واضح ظاهر جلي لا جدال فيه إلا من جانب هؤلاء الباحثين عن دور. بعدها يمكن البدء من جديد وفتح صفحة نظيفة يتم من خلالها بناء العقيدة العسكرية على أساس الضمير الوطني والعلم الحديث الذي يركز، وفقًا لجوستاف لوبون، على الابتكار والإبداع والانفتاحية والبعد عن الاستظهار والحفظ. علم يستهدف ملأ القلوب والعقول لا البطون والجيوب. علم يخلق قيادة واعية لا بطاقة ذاكرة تحمل بجمود بعض البيانات بداخلها وتكون على شكل إنسان يسميه من حوله بالعالم أو الأكاديمي، وهو المفهوم الذي وصل إلينا من خلال ترجمة الكتاب التي قام بها رائد التنوير الدكتور طه حسين صاحب أكبر مشروعات النهضة التعليمية والثقافية التي لم تتبناها أي من النظم المتعاقبة على حكم مصر لانشغالها في جمع الغنائم التي تخلفها الحرب التي أعلنها على شعب مصر. ولم يتبناها الشعب أيضًا لانشغاله بمشروعات وهمية وفرها له العسكر. أما الخيار الثاني، والذي لن يتأتى لنا التقاطه إلا بعد إسقاط النظام بالكامل هو أن ترعى الدولة بأكملها شعبًا وحكامًا مشروع يغير التعليم ومفهومه الجامد عديم الجدوى المطبق منذ عشرات العقود. ويتضمن ذلك البداية بهدم جميع أركان دولة الأمن والقمع والاستبداد مهما كان ممثلها في كرسي الرئاسة سواءً كان من الجيش أو من الإخوان، وهو الهدم الذي لن يتأتى من سلطة أو حزب أو جماعة، بل يُصنع في المنازل كما هو الحال في بورسعيد التي أعطت الإخوان ورئيسهم درسًا لن ينسوه ولا زالت تعلمهم كيف يكون الحاكم وما يجب عليه فعله. وهنا أعو لاعقي البيادات ومن قبلها أحذية المخلوع وأعوانه أن يتوقفوا عن نداءات الاستغاثة بالجيش وأن ينحازوا لمصلحة أجيال قادمة نيرد لها أن تولد في النور. Tags: * عاطف اسماعيل * مرسي * السيسي * طه حسين مصدر الخبر : البداية