تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، ففى الوقت الذى سعت فيه مصر إلى إقناع شركائها فى مبادرة حوض النيل بالتوقيع على الإطار المؤسسى للمبادرة، فقد تعثرت المفاوضات، بعد أن شهدت استقطاباً حاداً بين أعضائها من دول المنابع " 7 دول "، ودولتى المصب "مصر والسودان"، وذلك حول ثلاثة بنود من إجمالى 39 بنداً. تمثلت البنود الخلافية فى الحقوق المكتسبة، والإخطار المسبق، ونظام التصويت على القرارات، وذلك بالرغم من وجود توافق عام بشأن جميع البنود الأخرى للاتفاقية. الموقف المصرى، أصر على إدراج الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر ضمن متن الاتفاقية، والتمسك بمبدأ الإخطار المسبق قبل إنشاء أى مشروعات على نهر النيل وروافده، وأن يكون لمصر حق النقض فيما يتخذ من قرارات فى إطار مبادرة حوض النيل، من خلال الأخذ بقاعدة الإجماع عند التصويت على تلك القرارات، أو على الأقل عدم إصدار القرارات إلا بموافقة دولتى المصب. أما دول المنابع، فقد رفضت إدراج الحقوق التاريخية المكتسبة فى متن الاتفاقية، وقبلت بإدراجها فى ملحق يضاف إلى الاتفاقية، كما رفضت الالتزام بمبدأ الإخطار المسبق، ورفضت منح مصر حق النقض فيما يتخذ من قرارات. وقد أخفق أعضاء مبادرة حوض النيل فى الوصول إلى نوع من التوافق بشأن البنود الخلافية الثلاثة عبر جولات التفاوض التى جرت فى كل من كينشاسا والإسكندرية وشرم الشيخ، مما دفع دول المنابع إلى عقد اجتماع فى عنتيبى فى أوغندا فى 14 مايو 2010، من أجل توقيع اتفاق لتنظيم التعاون وإدارة الموارد بين دول حوض النيل. أسفر اجتماع عنتيبى عن توقيع ما عرف باسم (اتفاق عنتيبى)، بين أربع من دول المنابع، وهو الاتفاق الذى يقضى بإنشاء مفوضية جديدة لإدارة موارد النيل، يكون مقرها أديس أبابا، وعدم الالتزام بأحكام الاتفاقات التاريخية التى تنظم الانتفاع بمياه النيل (اتفاقية 1929، واتفاقية 1959)، مع دعوة دول حوض النيل التى لم توقع على الاتفاق، إلى التوقيع عليه فى غضون عام من توقيع الاتفاق. بالنسبة للدول التى وقعت اتفاق عنتيبى فهى: إثيوبيا، وتنزانيا، وأوغندا، ورواندا، ثم انضمت كينيا للدول الموقعة فى 19 مايو2010، وأخيراً انضمت بوروندى للاتفاق فى 28 فبراير2011. أما الدول التى لم توقع الاتفاق فهى: الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى دولتى المصب بالطبع، واريتريا العضو المراقب فى مبادرة حوض النيل. عقب توقيع الاتفاق، اتخذت الدول الموقعة سياسات تصعيدية ضد مصر، وباتت كأنها تقف معها على حافة الهاوية، حيث أكدت تلك الدول أن مصر والسودان ليس بوسعهما سوى الانضمام للاتفاق، بل ذهب رئيس الوزراء الإثيوبى ملس زيناوى إلى شن هجوم حاد على مصر، متهماً إياها بأنها ما زالت تقع تحت سيطرة الأفكار البالية المتعلقة بالحقوق التاريخية المكتسبة. وسعى زيناوى أيضاً إلى اختراق التنسيق المصرى - السودانى، مؤكداً أن السودان ليس المشكلة وأن مصر هي المشكلة فقط، كما أعلنت إثيوبيا عن استكمال مشروعها المائى الجديد"سد تانا بليز"، وذلك فى اليوم التالى لتوقيع اتفاق عنتيبى وهو 15 مايو " ذكرى إنشاء إسرائيل". من جانبها أيدت تنزانيا وكينيا وأوغندا ورواندا الموقف الإثيوبى، مؤكدة أن معاهدة 1929 قد عفا عليها الزمن، وإمعاناً فى التصعيد ذهبت وزيرة الموارد المائية الكينية إلى القول بأن ملف النيل لن يكون مطروحًا على الأجندة خلال زيارة رئيس الوزراء الكيني رايلا أودينجا الوشيكة إلى القاهرة. أما العوامل التى دفعت الدول الموقعة إلى توقيع اتفاق عنتيبى، فكان أهمها رغبة دول المنابع فى استثمار ما لديها من وفرة مائية فى إقامة المشروعات التنموية، والتوسع الزراعى، وتأمين احتياجاتها الغذائية لشعوبها التى تزايدت عدديًا بشكل كبير، وباتت تمثل عنصراً ضاغطاً على الموارد المحدودة لمعظم دول حوض النيل، ومن ثم رأت دول المنابع ضرورة إلغاء اتفاقيتى 1929 و1959 اللتين تمثلان أهم العقبات التى تحول دون إقامة مشروعاتها المائية، نظراً لاحتفاظ مصر بحق النقض بشأن المشروعات التى تقام على نهر النيل وروافده. ولا يخفى أيضاً الدور الذى تقوم به بعض القوى الأجنبية فى تشجيع دول المنابع على اتباع سياسات مائية مستقلة عن دولتى المصب، حيث تشير التقارير إلى وجود عشرات الدراسات المتعلقة بالتوسع الزراعى وإنشاء السدود والخزانات لأغراض تخزين المياه وتوليد الطاقة، والتى قامت بإعدادها مراكز بحثية متخصصة فى كل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل، خاصة فى ظل الشراكة الاستراتيجية بين الولاياتالمتحدة وإثيوبيا، والعلاقات الخاصة بين إسرائيل ودول المنابع، وقد ظهر ذلك بوضوح خلال زيارة وزير الخارجية الإسرائيلى أفيجدور ليبرمان أفريقيا فى سبتمبر 2009. إضافة إلى ما سبق، فقد لعبت سياسات البنك الدولى دوراً مهماً فى تشجيع الدول الموقعة على اتفاق عنتيبى على اتخاذ هذه الخطوة، فالمتتبع لإصدارات البنك الحديثة المتعلقة بالمسألة المائية يلاحظ أنها دأبت على الترويج لمجموعة من المفاهيم الجديدة مثل "تسعير المياه، وبورصة المياه، وإنشاء بنك المياه"، وهو ما يتسق مع مساعى الدول الكبرى التى يخضع البنك الدولى لهيمنتها، للتأثير فى سياسات الدول المستهدفة، وفى مقدمتها مصر والسودان بالطبع. وبالرغم من أن اتفاق عنتيبى لم يتضمن بنوداً بشأن تقاسم المياه بين دول حوض النيل، فإن خطره يتمثل فى أنه يعنى ضمناً إلغاء الاتفاقات التاريخية التى تضمن حصتى مصر والسودان فى مياه النيل، بما يتضمنه ذلك من إقرار أحقية دول المنابع فى إقامة المشروعات الجديدة على مجرى النيل الرئيسى وروافده، دون الالتزام بمبدأ الإخطار المسبق، ودون التقيد بالحقوق التاريخية المكتسبة لمصر والسودان. والأخطر من ذلك أن التصديق على اتفاق عنتيبى يمثل تهديداً حقيقياً لمشروعات التعاون المستقبلى التى كانت تسعى مصر إلى إقامتها لسد احتياجاتها المائية المستقبلية. والآن بعد أن دخلت العلاقات بين مصر ودول منابع النيل مرحلة الأزمة، تسعى الدولة المصرية، بكل ما تمتلكه من أدوات إلى مواجهة تلك الأزمة، ومحاولة الخروج من دائرة الخطر المائى، وذلك انطلاقاً من أن الأمن المائى المصلحة الأولى فى مصفوفة المصالح المصرية فى القارة الأفريقية، وأن تأمين حصة مصر السنوية فى مياه النيل يمثل "مصلحة مصيرية" ترتبط بوجود الدولة المصرية ذاتها بقاء وعدمًا. وعلى ذلك، يتناول كاتب المقال، عبر مقاله القادم، سبل المواجهة المصرية للمشكلة المائية التى طفت على السطح بشكل متفجر بعد توقيع اتفاق عنتيبى. مدرس العلوم السياسية نائب مدير مركز الدراسات السودانية جامعة القاهرة