القوى السياسية في مصر، بما فيها السلطة، تختلف على كل شيء، وتناقش كل ما له علاقة بمنظومة إعادة بناء السلطة السياسية، من الدستور إلى القضاء مروراً بالانتخابات، لكنّها تحني هامتها لتنزل إلى المجتمع لترى حالة المواطن المصري والمعدّلات المرتفعة بسرعة الصاروخ للبطالة والفقر والأسعار، في ظل انخفاض شديد لاحتياطات النقد . منذ انتفاضة 25 يناير 2011 والأمن الغذائي للمصريين يعاني الأمرّين ويواجه خطراً متصاعداً، حيث تظهر على نحو أوسع شواهد مؤلمة لمستوى حياة المصريين . الاقتصاديون، الأعلى قدرة من السياسيين على تقييم مسار الأمور، يرون اتجاهاً نحو الإفلاس والمجاعة . فعندما يصل عدد المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى نحو 25،2 في المئة، يجب أن تقرع السلطة جرس الإنذار بدل الغرق في مناكفات مع المعارضة والانشغال بمراسيم الاستئثار والتحصين الفئوي باسم “حماية الثورة”، ذلك أن العمود الفقري لكل ثورة عبر التاريخ هم الفقراء . يحضر في هذا السياق قرار الرئيس محمد مرسي برفع أسعار بعض السلع الاستهلاكية والخدمات، ثم تراجعه عن هذا القرار الذي قوبل برفض واسع في أوساط الشعب المصري . من ذلك التراجع يمكن الذهاب إلى استنتاجين، الأول أنه جاء قبيل إجراء الاستفتاء المسلوق على مشروع للدستور طمعاً في حصد المزيد من التأييد للمشروع الذي يحوي العديد من البنود التي رأى معارضوها أنها تكرّس فلسفة الإخوان المسلمين أكثر مما تفكّر بمصر كوطن للجميع . والثاني أن التراجع عن قرار بعد بضعة أيام على اتخاذه يعكس حالة تخبط وغياب للرؤية السياسية وضحالة خبرة في إدارة شؤون الحكم . ومن المهم ملاحظة أن قرار رفع الأسعار أهم من التراجع عنه، ذلك أن القرار يعبّر عن فكر وتوجه استراتيجيين، أما التراجع فهو مرتبط بحسابات لحظية ودوافع مصلحية، ما يعني أن قرار رفع أسعار بعض السلع والخدمات سيعود للصدور على نحو حتمي بعد إجراء الانتخابات، في حال حصلت كتلة “الإخوان المسلمين” على أغلبية تمكّنها من تمريره . من الواضح أن التغيير الذي حصل في بنية السلطة بعد انتفاضة 25 يناير، لم يمس البنية الطبقية، وهي عملية تشبه تبادل السلطة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولاياتالمتحدة، حيث يمثّل الحزبان وجهين لعملة البرجوازية نفسها . هذا يعني أن الفقراء لن يكونوا جزءاً من تفكير السلطة الجديدة التي تتبنى الآليات الاقتصادية ذاتها، وهي آليات تصب في خانة الأغنياء على حساب الفقراء، بما في ذلك التوجّه ل”الحلول” السريعة للمشاكل الاقتصادية، مثل الاقتراض من البنك وصندوق النقد الدوليين، بما يعنيه هذا الاقتراض من مفاقمة للأزمات على المدى المتوسّط وربما القريب. مصر الآن تعيش أجواء تشبه تلك الأيام التي أعلن فيها الرئيس الأسبق أنور السادات الذي قال ذات يوم “اللي مش هيكسب على أيامي عمره ما هيكسب . . واكسب زي ما انت عايز ما دام هتديني حقي” . كان ذلك العهد نقطة البداية للانقلاب على إنجازات ثورة 23 يوليو التي حوّلت عبيد الأرض إلى ملاك وأسياد، ويحضرنا قول زعيمها الخالد جمال عبد الناصر “هذا البلد لكم كلّكم وليس لفئة قليلة من الناس” . لذلك كان الفقراء أكثر المستفيدين من الثورة حين وزعت الأرض على الفلاحين بمن فيهم أسرة الرئيس مرسي، الذي تمكن من دراسة الطب بفضل التعليم المجاني الذي أتت به الثورة . ******************************* (نقلا عن الخليج - الامارات)