ثمّة تقاطعات عديدة يمكن أن نلمسها بين الحركة الصهيونيّة والحركة الإخوانيّة، سواء في البنية التكوينيّة والتنظيميّة المنغلقة، أو القواعد الأيدولوجيّة التي تنهض عليها كلتا الحركتين، رغم أن الأولى تنتمي إلى أصوليّة يهوديّة متطرّفة، في حين تنتمي الثانية إلى أصوليّة إسلاميّة لا تعدم التطرُّف. وبذلك يكون أبرز ما بين التجربتين من تشابه، هو أنهما حركتان سياسيتان أصوليتان، متطرفتان، تقومان على مبادئ التعصُّب الديني، مع الحرص على استثمار الدين في مشروع سياسي محدّد . ويبدو أن تجربة الحركة الصهيونيّة ظلّت، وإلى أمد طويل، وربما ما زالت، تحت مجهر الإخوان، ليس تطبيقاً لمبدأ "اعرف عدوّك"، ولكن من قبيل: تعلّم ممن سبقك كيف أقام كيانه وعزّزه بالقوّة الماديّة والأيدولوجيا التضليليّة. وليس في التعلُّم من العدو ما يعيب، إلاّ أن المسألة هنا بلغت درجتها القصوى، أي الافتتان "بالآخر" حتّى "التماهي" معه في تفاصيل كثيرة. ولكن في حين شكّلت الحركة الصهيونيّة الأصل في هذه العمليّة، فإن الحركة الإخونيّة شكّلت الصورة/ التقليد. فعبادة المال، على سبيل المثال، متأصِّلة في الحركة الصهيونيّة، كونها راسخة في التربية والوجدان اليهودي. ولذلك فقد شكّل هذا الأمر عصب المشروع الصهيوني الذي نشأ بفضل الرأسماليّة اليهوديّة. وكان كارل ماركس، المعروف بأصوله اليهوديّة، أدرى بشعاب المسألة وهو يؤكِّد على أن.. "المال هو إله إسرائيل المطماع"، مضيفاً :"هذا هو الإله الحقيقي لليهود... وقومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال". ولعل الإخوان في مصر لاحظوا، منذ وقت بعيد، كما لاحظ غيرهم، أن يهود مصر ظلّوا يحرصون على تركيز وجودهم حيث تقوم البنوك والمؤسسات الماليّة والتجاريّة. ويكفي أن نشير إلى أنه ليس من المصادفة أن يقع الكنيس اليهودي في الاسكندريّة، على سبيل المثال، في شارع النبي دانيال وسط المدينة، المتاخم للبنوك والمؤسسات الماليّة. أمّا لجهة الإخوان، فإن الحصول على المال، منذ بداية الدعوة، شكّل الهدف الأوّل للمرشد المؤسِّس حسن البنّا، الذي لم يوفِّر طريقة لتوفيره، سواء بالقبض من شركة قناة السويس التي كانت تشرف عليها بريطانيا، عدو الشعب المصري ومستعمِرته، أو بتقبيل يد الملك السعودي من أجل ذلك، كما تشهد الصُّورة! في توصيفه لمكونات الهويّة الإخوانيّة، أشار المؤسس حسن البنا إلى أنها، إلى جانب كونها دعوة سلفيّة وهيئة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة ورياضيّة، هي، وفق تعبيره الدقيق.. "شركة إقتصاديّة"!. وبنظرة سريعة إلى تشكيلة حركة الإخوان الآن، نجد أن قيادة الجماعة تتكوّن من نخب اقتصاديّة تنتمي إلى الرأسماليّة التجاريّة على الأغلب، وخير مثال على ذلك خيرت الشّاطر، نائب مرشد الإخوان الحالي، رجل المال والأعمال، ملياردير الجماعة الغامض، الذي يتماهى بشخصه ومشروعه مع مليارديرات الصهيونيّة. ولو راجعنا قوائم المؤسسات الاقتصادية التجاريّة العائدة إلى الإخوان، والمنتشرة في أرجاء مصر، لرأينا الدرجة التي يتمتّع بها نفوذهم الاقتصادي، مما يُغري بمقارنة ذلك بتغلغل رأس المال الصهيوني خلال النصف الأول من القرن العشرين، في أوروبا وأميركا ومناطق أخرى من العالم. إلى جانب ذلك، ثمّة تقاطعات فكريّة يمكن أن نلمسها بين الحركتين الصهيونيّة والإخوانيّة، يتمثّل أبرزها في النظرة "الشوفينيّة" إلى الذات والمتعاليّة على "الآخر". ففكرة "الغوييم" (الأغيار) المعروفة في الأولى، والتي تُفرِّق بين اليهودي "النقي"، "المتميِّز"، وغير اليهودي، نجدها في فكر وممارسة الإخوان المسلمين، الذين يجهدون في إعلاء الذات مع إلغاء وجود الآخر غير الإخواني، أو التقليل من قيمته. يتجلّى ذلك في الرفض الذي مارسته سلطة الإخوان لفكرة المشاركة السياسيّة مع "غيرهم" في المؤسسات التي يقيمونها، ويُقصُون عنها القوى الأخرى التي شاركت في الثورة، بل وسبقتهم إليها، وواصلتها بعد أن اكتشفت خذلان العسكر، وزيف جماعات الإسلام السياسي. ولسنا بحاجة إلى كبير عناء إذ نتأمّل المشهد المصري الذي قسّمته الجماعة إلى إخواني و"غوييم". وإذا كانت فكرة "الأنا" المتميِّز، و"الآخر" الأدني، هي التي أباحت للصهاينة ارتكاب المجازر ضدّ الشعب الفلسطيني، فإنها نفسها هي التي تبيح للإخوان استباحة دماء غير الإخوانيين، وممارسة العنف ضدّ كلّ من يخالف "الشّرع"، على اعتبار أنهم وحدهم حماته!. وبذلك فإن ما يظلّ يجمع بين الطرفين في تبرير انتهاكاتهما، خطاب ديني تبريري وتضليلي جاهز، من نماذجه الأخيرة تعبير "عمود السحاب" التوراتي الذي استبيحت تحت غطائه دماء "الأغيار" في غزّة، وخطاب "الشرعيّة والشريعة"، الذي ينطوي على تهمتيّ التكفير والخيانة لآخرٍ يحق عليه القول، من وجهة نظرهم. فكرة "الأغيار"، التي استعارتها الجماعة من الأيدولوجيا الصهيونيّة، تقود بالضرورة إلى خلق مجتمع "الغيتو"، التي تمثّلها حالة العزلة والانغلاق المجتمعي والتقوقع على الذات. وقد حفل التاريخ الأوروبي بنماذج كثيرة عن تلك المجتمعات التي عُرفت "بنقائها" العنصري. وفي الغيتو الإخواني، المتعالي والمنغلق على الذات، يمكن أن نلاحظ الأمر، على سبيل المثال، في تأمُّل ظاهرة التزاوج المحصورة غالباً في الدائرة الإخوانيّة نفسها. وإذا كانت الحركة الصهيونيّة قد نجحت في ابتزاز العالم بإتقانها لعب دور "الضحيّة"، وأقامت لذلك مئات المتاحف ومراكز البحث الخاصّة بالهولوكوست (كما فصّلها فنكلشتاين في كتابه "صناعة الهولوكوست")، فإن الإخوان لا يكفون عن حديث عداء الأنظمة المختلفة واضطهادها لهم، من الملك فاروق الذي كان وراء اغتيال حسن البنّا (ردّاً على ممارسة الأخير للإرهاب)، إلى عبد الناصر الذي وسّع لهم سجونه (بعد محاولة اغتياله من قبلهم في الاسكندريّة 1954)، مروراً بالسادات الذي ندم لاحقاً على إطلاق أيديهم، وانتهاء بمبارك. ورغم التعاطف المبدئي مع كلّ مظلوم ومضطهد في كلّ زمان ومكان، إلاّ الإخوان لم يوفِّروا مناسبة للتباكي وابتزار العواطف، مستفيدين بذلك من التجربة الصهيونيّة، وإن لم يبلغوا بعد درجة إقامة متاحف هولوكوست إخواني.. ومراكز بحث لذلك! ****************************** (نقلا عن الايام الفلسطينية)