أخيرًا وبعد تأجيل وجلسات تشاور مكوكية واستقبالات في الخفاء والعلن تم تشكيل حكومة الدكتور هشام قنديل واكتمل نصابها.. مخاض عسير لأول وزارة تتشكل بعد انتخاب الرئيس. ووسط كم هائل من الأسئلة حول مبررات اختيار كثير من أعضاء الحكومة الجديدة، يبرز سؤال غريب لكنه مُلح؛ لماذا يعتذر هذا الطوفان من الشخصيات العامة عن حقائب وزارية في حكومة يفترض أن تحمل على كاهلها مسؤولية إعادة بناء مصر وانتشالها من حيث تقبع؟ تاريخياً كان تقلد منصب وزاري وجاهة ومكرمة ينشدها كل إنسان بغض النظر عن كفاءته وميوله ومراميه من وراء تقلد هذا المنصب الرفيع. ثم تعاقبت حقب كان للمنصب إلى جانب الوجاهة الاجتماعية عائدات معتبرة، ورتب النفوذ والسلطة من المزايا والعطايا والمكاسب المادية ما لا يحصى، فيما توارت التبعات والمساءلة إلى مكانة هامشية كادت تهبط بالمنصب الوزاري إلى مرتبة الوظائف الشرفية. وظهرت طائفة من الوزراء الذين لا يُسألون عما يفعلون أو لا يفعلون إلا إذا تعلق الأمر بكوارث لا يمكن مداراتها أو إبقاؤها طي الكتمان. والحال هكذا، أتى حين طفت على السطح فئة هدفها تسقُّط الأخبار والتسكع بالقرب من دوائر صنع القرار على أمل أن يلفت وجودهم النظر فتفتح لهم الأبواب للمنصب المنشود، ونحت الكاتب الصحفي الكبير أحمد رجب تعبير "عبده مشتاق" للإشارة إلى هذا الصنف من الناس الذي كان يوقف حياته وأنشطته، ويجند علاقاته، ويحشد مهاراته في التسلق والاستعراض للوصول إلى من بيده الحل والعقد. يقيناً مثلت مرحلة ما بعد الثورة نقطة تحول في النظرة إلى المنصب الوزاري. وفي فترة وجيزة للغاية تحول المنصب البراق إلى عبء خالص يسعى الجميع إلى التنصل منه. فمن ينجو من الاتهام بالتبعية للنظام القديم حوصر بمطالب لا قبل لوزارة بها وطارده هدير السخط من الجموع المتمترسة بالميادين، فيما مثلت المحاكمات الجارية للوزراء السابقين رعباً حقيقياً يكبل الأيدي ويجمد المداد في أقلام المسؤولين وكأني بكل منهم يدعو أن تمر أشهره المؤقتة على خير غير ضارين ولا مضارين، حتى تحولت الحكومات القصيرة المتعاقبة من تسيير الأعمال إلى تجميدها خشية المساءلة. تغير هذا بدرجة ملحوظة مع حكومة الدكتور كمال الجنزوري التي أدت أداءً لا بأس به على جبهات عدة، وإن تحدتها أزمات خانقة، بدا كثير منها كأنه مدبر من جهات غير معلومة مثل أزمة الوقود. إلا أن الرهاب كان قد تمكن فيما يبدو من قطاع عريض من المرشحين التقليديين للعمل الوزاري. وتعاظم الرهاب وهم يرون وزراء مشهودا لهم بالكفاءة مثل السيدة فايزة أبوالنجا في مرمى النيران، تشن ضدها حملات هجوم شعواء دون مبرر مقنع إلا استمرار وجودها في تشكيلة وزارات متلاحقة. ومن لم يصبه الرهاب من الهجوم الإعلامي والميداني، أرقته فكرة الاحتراق السياسي المبكر في وزارات قصيرة العمر سبقت انتخاب رئيس للجمهورية. الآن ومع تولي رئيس منتخب زمام الأمور-ما يعني أن أي وزارة ستتشكل لا تدخل في إطار وزارات تسيير الأعمال القاصفة للعمر السياسي-كان يفترض أن يتبدد الرهاب ويستعيد المنصب بريقه. بيد أن العنت الذي صادفه رئيس الوزراء المكلف في العثور على شخصيات مناسبة تقبل العمل الوزاري، يشير إلى استمرار الخوف والرفض والتهرب. كما يرجح وجود محاذير تضيق الاختيارات وتصعب المهمة. وتشكلت في الأفق علامات رجحت أن ثمة حالة رفض للعمل في ظل حكومة إخوانية التوجه أو التوجيه. وأمعنت بعض الأحزاب والقوى السياسية في التعبير عن هذا الموقف من خلال الإحجام عن الدفع بكوادرها في هذه الحكومة، فيما انسحب حزب النور لسبب يرتبط غالباً بالاختلاف على توزيع الحصص ونوعية الوزارات. ثمة محاذير أخرى ارتبطت مباشرة بموقف المجلس العسكري من المرشحين لا سيما للوزارات السيادية. كان معلوماً بالضرورة أن المجلس لن يمرر إلا من يلائم تفضيلاته وأنه جاهز للوقوف حجر عثرة أمام من يفترض فيهم المناوءة لذلك تعثر استكمال تشكيل الحكومة في الموعد الذي ضرب آنفاً وتم التأجيل لحين الوصول إلى تركيبة ترضي الأطراف التي لا يتم الأمر إلا برضائها، فيم ترك لغير الراضين ممن هم أقل خطراً وتأثيراً في مصير الحكومة المنتظرة أن يمضغوا اعتراضاتهم أوينسحبوا. المحصلة هي تشكيل وزارة يمكن وصفها بوزارة ما تيسر. رفض اللحاق بها الكثيرون، فضاقت دائرة الاختيار ورحابة التنوع، وربما اضطرت إلى استبعاد كفاءات لم يصبها الاتفاق والتوافق، وربما اضطرت أيضاً إلى اختيارات مرغمة لآخرين قد لا يحظون بالقدر نفسه من الكفاءة لكنهم متاحون أوهم الأقل إثارة للتنازع. لذلك سنلاحظ مزيجاً من أخلاط شتى يصفونه بالتوافق والائتلاف. ولكن إلى أي مدى يتسع هذا التوافق ويأتلف هذا الائتلاف؟