ما الذي بين حكام مصر الحديثة والماء؟ كلما فكروا في مشروع قومي كان الماء هو الإجابة! استهل محمد علي التاريخ الحديث لمصر بتنظيم الري وزيادة الأرض المزروعة، فكانت القناطر الخيرية، لكنه رفض إنشاء قناة تربط البحرين الأبيض والأحمر. لم يرفض سعيد باشا عام 1859، لتُفتتح القناة في عهد الخديوي إسماعيل عام 1869. وفي حكم عبد الناصر كان المشروع الحلم هو السد العالي لإنهاء طغيان النيل، لكن مات ناصر قبل الافتتاح ليقص السادات الشريط. وعندما أراد مبارك أن يكون ذا بصمة كان الماء هو الإجابة، فكان مشروع توشكى، وما أدراك ما توشكى! فلما جاء السيسي ومعه وعد مصر بحجم الدنيا كان البحث عن مشروع قومي يستوعب الأحلام، وكانت الإجابة هي الماء، ليُدشن مشروع ازدواج جزء من القناة فيما يعرف بقناة السويس "الجديدة." كيف حصر حكامنا الاقتصاد في الطبيعة؟ لماذا كان معظم جهدنا إما في استغلال الطبيعة أو في تطويعها؟ لاح ذلك لهيرودوت قديماً فقرر أن مصر هبة النيل، أي نتاج الطبيعة. أحس مؤرخونا بعدم الارتياح تجاه ما قرره هيرودوت فقالوا إن النيل يجري في بلاد كثيرة، لكن ليست كحضارتنا، إلا أنها في النهاية قائمة على الطبيعة، وظللنا دائماً مشدودين إلى الاقتصاد السهل الذي يستخرج البترول، أو يعيش على الآثار والشواطئ، أو يقتات على ممر مائي، لكنه اقتصاد هش، إن قامت حرب واحدة توقفت الملاحة والسياحة، ولو نضب البترول في الأرض لخرج عجز الميزانية عن السيطرة. استثمرنا في الطبيعة لا الإنسان، رغم أن أهم منتج مصري هو المصري! تحول التعليم إلى مشكلة، ثم صار مهزلة... لا مراكز بحثية، ولا جامعات ذات وجود، ولا صناعة وطنية تدعم البحث العلمي وتستفيد منه. ولينا وجوهنا شطر الطبيعة كالعادة، لتستمر أحلامنا على الماء! الاقتصاد القائم على ما جادت به الطبيعة اقتصادٌ سهل ليس به الكثيرُ من التحدي... اقتصادٌ بشحذ العضلات والماكينات لا العقول والإبداعات... اقتصادٌ لا يجبر على الاختراع والمنافسة، وذاك كان اختيارنا أو الاختيار لنا... اختار الحاكم أن نبني على الماء، أو أن نركب الهواء إلى الشرق والغرب لنطلب رزقنا ونرسل لأهلينا رزقهم، وتصبح تحويلات المصريين من الخارج أهم المصادر السهلة للعملة الصعبة! ليستمر اقتصادنا حياً بلا حيوية، وقائماً بلا قوائم. والآن تجدُ مصرَ مدفوعةً بأحلامها للمرة الرابعة نحو الماء، في انتظار "ذهب"القناة، وما بين مؤيدٍ بإيمان، ومستنكرٍ بالعقل والوجدان ضاع الفكر وتشوش التفكير! لماذا نحدد موقفنا حسب القائل لا القول؟ أنا لا يعنيني "من" بل "كيف" و"لماذا"... في الحقيقة أنا لا أفهم لماذا توصف التفريعة التي يتم حفرها "بالجديدة"! لقد كان طول قناة السويس عند افتتاحها في القرن قبل الماضي 160 كيلو متر، والآن طولها يزيد عن 190 كلو متر.. كانت عند افتتاحها تستوعب سفنا حمولتها ...5 طن، والآن تستوعب حمولة 250 ألف طن. كان العمق عند الافتتاح 7.5 متر، والآن زاد العمق أربعة أضعاف... كان هناك تطوبرٌ طوال الوقت بدون تلك المبالغة التي تضلل أكثرَ مما ترشد. ليست هناك بيانات واضحة عن تكلفة الحفر، ولا نعرف ماذا في دراسة الجدوى، ولا نفهم إن كانت التفريعة الجديدة ستزيد من نصيب قناة السويس من حجم التجارة الدولية، ولا من شارح لتأثير التطوير في قناة بنما على قناة السويس، ولا معلومات تخبرنا كيف تم صرفُ أرباحٍ للمشروع قبل أن يدر ربحاً... لا أفهم كيف نؤيد أو نرفض قبل أن نفهم... المفترض في أي مشروع أن يفيدنا نحن، ولذا يجب أن نقيمه طبقاً لحساباتنا نحن، لا حسابات أي حكومة أو قيادة. أفهمُ أن الناسَ يحتاجون إلى سماع خبر حلو... يحتاجون للأمل والحلم... مشتاقون أن يروا إنجازاً ليسموه إعجازاً، لكن تلك الأحلام والأشواق لا يجب أن تعطل تفكيرنا أو تمحو ذاكرتنا... لقد أعقب كلَ أحلام الماء في بلادنا انكسارٌ؛ بنى محمد علي القناطر وبعدها كان انكسار الهزيمة في موقعة نفارين، واحتُلت مصر بعد افتتاح قناة السويس بثلاثة عشر عاماً، وانهزمت مصر في أوج مشروع السد عام 1967، وكانت توشكى المشروع الكارثي رغم كل الحشد الدعائي... في السبعينيات كان يُنظر للاتحاد السوفيتي على أنه معجزة اقتصادية، وفي التسعينيات كان السقوط المدوي... قبل أن نذهب بأحلامنا إلى الماء، علينا أن نصلح السياسة حتى يمكن أن يصلحنا الاقتصاد. المقال المطبوع المقال المطبوع