لم يستطع مبدعٌ أو مثقفٌ مصري واحد مِن عشاقِ ومُحبي الأبنودي أن يقاوِمَ رغبةَ التعليق على رحيل الأبنودي، وامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي ببوستات وتعليقات تباينت حجما ومستوى ومحبةً وترحُمَّا. وسنحتْ واحدةٌ من الفرص القليلة أمام الأدعياء والأنصاف والمزيفين ليرووا حكاياتهم الخاصة مع الشاعر الراحل – التي بالطبع لم يشهدها أحد غيرهم - ..!! لم يستطع مبدعٌ أو مثقفٌ مصري -أو عربي- واحد من المختلِفين مع الأبنودي رحمه الله أن يقاوِم هو أيضا رغبة إعلانه عن اختلافه مع الشاعر أو التجربة ... وسنحت هنا الفرصةُ للبعض أن يتحدث بما لم يكن قادرا عليه والرجل حيٌّ يسعى بين ظهرانينا ...! لم تستطع الميديا المصرية والعربية أيضا أن تقاوِم حدثا وإنْ بدا جللا إعلاميا إلا أنه بدا كنزا إعلانيا أيضا، واستثمرت جميعُها الخَطبَ الجلل في برامجَ ولقاءاتٍ ومداخلات تتحدث عن الشاعر والتجربة والإنسان لتمتلئ شاشاتُ الفضائيات وموجاتُ الأثير بحياة وذكريات وأشعار عبد الرحمن الأبنودي .. ولتبدو الفرصةُ سانحة هنا أيضا لالتقاط الأنفاس قليلا بعيدا عن هموم السياسة ومحاكمات الإخوان وعاصفة الحزم ...!! لم تستطع وزارةُ الثقافة المصرية أن تقاوِم فاجعةَ رحيل الشاعر الذي أرادت أن تحتفل به بافتتاح متحفه متحف السيرة الهلالية بأبنود بمحافظة قنا والذي كان مقررا افتتاحه رسميا السبت 25/4/2015 بإقامة أسبوع ثقافي فني، فاضطرت أن تؤجِّل الافتتاح والاحتفال معا .. وسنحت الفرصة أيضا لتزعم الوزارةُ على لسان بعض قياداتها بعد الوفاة أن الشاعر الراحل كان مقررا أن يحضر الاحتفالَ والافتتاح رغم أنها تعرف جيدا أن الراحل كان قد أجرى عملية جراحية قبيل وفاته بأيام ...!!! لا أحدَ استطاع أن يقاوِم، بينما يبدو أن فِعل "المقاومة" نفسَه كان واحدا مِن أهم ملامح الأبنودي شاعرا وإنسانا وتجربة بدءا مِن مقاومته العنيفة لإغراء سطوةِ وتراث أبيه الشعري رافضا أن يكمِل مسيرته في أن يكتبَ مثله الشعر الفصيح الذي استسلم له أخواه "جلال" و "كرم". وآثر هو أن يبحث لنفسه عن لغةٍ خاصة وبصمة مميزة وهو ما نجح فيه تماما بينما لم يحقق أخواه شيئا الذيوعِ والصيتِ والشهرة التي حققها. قاوَم الأبنودي كل إغراءات البقاء في قريته أو حتى في مدينته الجنوبية وهي إغراءات الأمن والهدوء والإحساس بالعزوة بين الأهل والأصدقاء مؤْثِرا الرحيل إلى القاهرة، وهناك استمر الأبنودي في مقاومة ظروف الإقامة ومشاعر الغربة رغم كل حنينه "للأرض والعيال"، ورغم ما يستشعره هناك من "الزحمة" قاوَم الأبنودي في القاهرة بضراوة وشراسة أن يصبح جزءا مِن تراث أُم كلثوم أو عبد الوهاب وآثر أن يبحث عن حالةٍ فنية جديدة فكان ارتباطه بعبد الحليم حافظ الذي بدا له جديدا متفقا مع تجربته هو الجديدة قاوَم الأبنودي بعد ذلك كل ما حوله ومَن حوله ليحافظ – مِن وجهة نظره – على كل ما وصل إليه من مجدٍ وشهرةٍ وكتابةٍ شعرية أدرك بذكائه أنها مختلفة ومغايرة؛ فلم يعطِ أُذُنا لاتهامات الآخرين بأنه ربيبُ الأنظمة وابن المؤسسة الرسمية، ولا التفتَ لتلك المقارنات بينه وبين رفيق رحلته "أمل دنقل"، ولا لاتهامات التخلي عن الأهل والأقارب، ولا لمزاعم متاجرته بالصعيد وبلهجته. ومضى لا يبالي بكل ذلك مستشعرا أنه قاب قوسين من تحقيق الأسطورة التي ربما كانت تتمثل أكبر ما تتمثل له في تحقيقه ما لم يقدر على تحقيقه شعراءُ الفصحى في الوطن العربي كله بأن يكون مطلوبا من الجميع متعلمين ومثقفين وعامةً ودهماء ... وهو ما يكاد أن يكون قد حققه بالفعل.