يحدث أن تجنى الشهرة الواسعة لشاعر ما على كل أبناء وطنه من الشعراء، كما يحدث أن تطغى شهرة قصيدة ما على كل أخواتها من قصائد الشاعر، بل ويحدث أن تطغى شهرة أبيات قليلة من القصيدة على شهرة القصيدة وغيرها من قصائد الشاعر. وأظن أن هذا ما حدث تماما مع شاعر تونس العبقرى أبى القاسم الشابى، فقد حالت شهرته الواسعة دون التعرف على سواه من الشعراء التونسيين الآخرين، ثم ذاعت شهرة قصيدته إرادة الحياة على كل ما سواها من القصائد، ربما لم ينجو منها إلا قصيدة "صلوات فى هيكل الحب" التى مثلت نموذجاً فريداً فى بابها، ثم ذاعت شهرة البيتان الشهيران : إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ.. فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي .. وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر أقول: إن شهرة هذين البيتين قد طغت على كل ما عداهما من أبيات القصيدة، وذلك على الرغم من روعة بقية أبيات القصيدة، وروعة بقية قصائد الشاعر ، وتميز كثير من شعراء تونس الآخرين. لقد كان أبو القاسم الشابى شهاباً سطع فى سماء القصيدة العربية ثم انطفأت به جذوة الحياة قبل أن تزيد عدد سنوات عمره عن خمسة وعشرين عاماً. حين يحصى النقاد قصائد الشاعر العبقرى، الذى أعادت الثورات العربية اكتشافه رؤيته للحياة، ودعوته إلى الحرية، فوجدوا أن ديوانه الشعرى يحتوي على ثمانية وتسعين قصيدة، أصغرها مقطوعة شعرية في بيتين فقط، وأكبرها قصيدة تحتوي على ثمانية وتسعون بيتا. إن هذه السنوات التى لم تزد عن خمسة وعشرين وهذه القصائد التى لم تصل إلى المائة كانت كافية ليحتل بها هذا الشهاب العبقرى مكاناً عبقرياً على خريطة شعرنا العربى الحديث، لاسيما فى مرحلته الرومانسية. وأنا لن أطيل فى حديثى عن الشابى وإنما فقط سأحيل إلى مقطع طويل من مقاطع قصيدة "إرادة الحياة" لنعرف هذا الشاعر الذى لم نعرفه: وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ .. مُثَقَّلَةٍ بِالأَسَى وَالضَّجَر سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ .. وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِر سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ .. لِمَا أَذْبَلَتْهُ رَبِيعَ العُمُر؟ فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَاهُ الظَّلامِ .. وَلَمْ تَتَرَنَّمْ عَذَارَى السَّحَر وَقَالَ لِيَ الْغَابُ في رِقَّةٍ .. مُحَبَّبَةٍ مِثْلَ خَفْقِ الْوَتَر يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ .. شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَر فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ .. وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ .. وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر وَتَهْوِي الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُهَا .. وَأَزْهَارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِر وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ في كُلِّ وَادٍ .. وَيَدْفنُهَا السَّيْلُ أنَّى عَبَر وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيعٍ .. تَأَلَّقَ في مُهْجَةٍ وَانْدَثَر وَتَبْقَى البُذُورُ التي حُمِّلَتْ .. ذَخِيرَةَ عُمْرٍ جَمِيلٍ غَبَر وَذِكْرَى فُصُول ٍ ، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ .. وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَر مُعَانِقَةً وَهْيَ تَحْتَ الضَّبَابِ .. وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْتَ الْمَدَر لَطِيفَ الحَيَاةِ الذي لا يُمَلُّ .. وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِيِّ الخَضِر وَحَالِمَةً بِأَغَانِي الطُّيُورِ .. وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَر وَمَا هُوَ إِلاَّ كَخَفْقِ الجَنَاحِ .. حَتَّى نَمَا شَوْقُهَا وَانْتَصَر فصدّعت الأرض من فوقها .. وأبصرت الكون عذب الصور وجاءَ الربيعُ بأنغامه .. وأحلامهِ وصِباهُ العطِر وقبلّها قبلاً في الشفاه .. تعيد الشباب الذي قد غبر فلنعد قراءة المقطع مرة ثانية ثم نتساءل : كم فاتنا حين اكتفينا من الشابى ببيتيه الشهيرين؟! من العدد المطبوع من العدد المطبوع