منذ 46 عاما كان دمه الطاهر هو ألق الوطن والبشارة والعلامة. هنا في "العلامة رقم 6" على قناة السويس وعلى مسافة لاتزيد عن 250 مترا من نيران العدو كان البطل عبد المنعم رياض يشرع قامته النبيلة ويطلب الثأر عبر الشهادة. يحصي الثواني ليوم الحساب. يتوق للحظة متحررة من غيم الخديعة ويركض ساطعا كوهج النور نحو حلم الشهادة.. يعلم أن للفردوس أبوابا وقد اختار باب الشهداء فإذا بالغياب حضور يزداد توهجا مع الأيام والسنين وإذا بنا في حاجة لأفكاره وتفكيره الاستراتيجي اليوم أكثر من أي وقت مضى!. فواجب الوقت الآن تشكيل قوة عربية مشتركة لمحاربة الارهاب ومن يقفون خلفه.. اليوم وقد بات العدو يستخدم اقنعة مموهة بشعارات دينية ويستعمل قوى الارهاب وجماعات التكفير لتحقيق اهدافه تنطلق الدعوة المصرية لتشكيل قوة عربية مشتركة لطالما حلم بها عبد المنعم رياض الذي شغل منصب رئيس اركان القيادة العربية الموحدة في عام 1964 وقاد الجبهة الأردنية التي كانت رغم قلة الامكانات من أكثر الجبهات ايجابية وأقلها في الخسائر البشرية أثناء حرب الخامس من يونيو 1967. وكانت "القيادة العربية الموحدة" قد اقيمت حينئذ لتوحيد الجهود العسكرية العربية ضد اسرائيل فيما يقول وزير الحربية الأسبق محمد فوزي: "كان الفريق عبد المنعم رياض الذي عين رئيسا لأركان هذه القيادة هو المحرك الفعلي لنشاطها في أغلب دول المواجهة". والقوة العربية المشتركة والمقترحة اليوم هي قوة ذات طابع دفاعي تصد اية أخطار محتملة تتعرض لها الدول المنضوية فيها وقد تؤدي احيانا دور "قوات لحفظ السلام بأي دولة عربية". وعرف عبد المنعم رياض بفكره الاستراتيجي اهمية العمل العسكري العربي المشترك ويعيد وزير الحربية الأسبق محمد فوزي الى الأذهان "الانذار المبكر صباح 5 يونيو" الذي ورد من الفريق عبد المنعم رياض في قيادته المتقدمة بالعاصمة الأردنية عمان إلى القاهرة عن موجات متتابعة من المقاتلات الاسرائيلية في طريقها إلى مصر غير أن هذا الانذار لم يجد من يستقبله فيما كان كفيلا بتغيير مسار هذه الحرب المشؤومة!. وبعد هذه الحرب شغل عبد المنعم رياض منصب رئيس اركان حرب القوات المسلحة المصرية دون أن يغفل عن اهمية العمل العسكري العربي المشترك ودعا لتشكيل "الجبهة الشرقية الموحدة" لتضم جيوش سوريا والأردن والعراق.. لكن الجنرال الذهبي لم يكن غافلا عن اهمية "الأبعاد السياسية" والحساسيات بين الأنظمة العربية ولم تغب عن ذهنه الحقيقة المتمثلة في ان التعاون العسكري هو أعلى أنواع وأرقى مراحل التعاون السياسي. انطلق عبد المنعم رياض في دعوته للعمل العسكري العربي المشترك من حقيقة أن مايجمع العرب اكثر مما يفرقهم وان التناقضات بين انظمتهم يمكن أن تكون تناقضات ثانوية قياسا على التناقض الرئيس مع الأعداء التاريخيين للأمة العربية ثم انه استند في دعوته على اطار مؤسسي توفره معاهدة الدفاع العربي المشترك وهذه المعاهدة لابد من تفعيلها وتطويرها اليوم لتحقيق فكرة القوة العربية المشتركة التي دعت لها مصر على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي. وإذا كان الارهاب يشكل خطرا مشتركا على العرب فلابد من رد فعل عربي مشترك كما أن هناك حاجة "للتفكير الناقد والابتكاري" للجنرال الذهبي عبد المنعم رياض لتجاوز أي عقبات تعرقل العمل العربي المشترك وأعلى مراحله، أي التعاون العسكري ضمن قوة دفاع عربية مشتركة. فنحن اليوم بحاجة لذهنية عبد المنعم رياض كصاحب "تفكير ناقد وابتكاري وأبعد مايكون عن التقليدية والنمطية" وقدرة على التعامل مع المشاكل المعقدة مع تمتعه بادراك لمتغيرات عصره ورؤية مستقبلية وقومية معا ومن هنا عين في عام 1968 أمينا عاما مساعدا للشؤون العسكرية لجامعة الدول العربية. و الفريق اول عبد المنعم رياض الذي استشهد يوم التاسع من مارس عام 1969 كان دائم الاطلاع ويقرأ في مختلف الثقافات بالعربية والانجليزية والفرنسية والروسية فيما يدرس الرياضيات والالكترونات وينتسب وهو برتبة "الآميرالاي" لقسم الرياضة البحتة بكلية العلوم حتى يتعمق في دراسة الصواريخ المضادة للطائرات. كما انتسب الى كلية التجارة وهو برتبة الفريق لايمانه بأهمية الاقتصاد في الاستراتيجية واحتفظ في مكتبته العامرة بكتب الاقتصاد والعلوم والحرب والسياسة فيما حصل على شهادة الماجستير في العلوم العسكرية من كلية اركان الحرب بعد ست سنوات فقط من تخرجه من الكلية الحربية. وفي الثالث والعشرين من ديسمبر عام 1944 وفي الدورة السابعة من دورات كلية اركان الحرب يصف تقريرها "اليوزباشي" عبد المنعم رياض الذي جاء ترتيبه الأول في التخرج :"يوصى به كضابط اركان حرب فهو ضابط مجد جدا وعنده روح الابتكار في عمله ويدرس كثيرا ويبحث عن الحقيقة المجردة والعلم وله افكاره الخاصة وعنده الشجاعة لابداء رأيه". بالتأكيد تختلف التفاصيل والتحديات المتعلقة بفكرة القوة العربية المشتركة عن زمن فارس الشهداء عبد المنعم رياض ولكن الجوهر الاستراتيجي لن يختلف كثيرا.. ولعل هذه القوة العربية المشتركة سيكون عليها تبني فلسفة العمل الاستباقي والمباغتة بناء على معلومات دقيقة لاجهاض الارهاب في مكمنه ناهيك عن ضرورة وجود قيادة تمتلك ثقافة استراتيجية تشكل جماع الأفكار الخاصة بالأمن القومي بقدر ماهي بيئة فكرية تحدد الخيارات السلوكية للدول العربية التي تمتلك الارادة للمشاركة في هذه القوة والقدرة على توصيف الأعداء الحقيقيين ومصادر التهديد الفعلية. واليوم في الذكرى السادسة والأربعين لرحيل فارس الشهداء عبد المنعم رياض يمكن استخلاص الكثير من افكاره كرجل امتلك الثقافة الاستراتيجية في عصره وتطويرها لخدمة قضايا مصر والأمة العربية وتحقيق فكرة القوة العربية المشتركة في عصر العولمة والثورة الاتصالية العظمى بما يعنيه ذلك من ضرورة تجديد مفاهيم الأمن القومي وبناء نموذج معرفي جديد اكثر قدرة وملائمة في التعامل مع تحديات العصر ومستجداته المذهلة!. وفيما بين التاسع عشر من سبتمبر عام 1945 والعشرين من فبراير عام 1946 اتم اليوزباشي عبد المنعم رياض دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات في مدرسة المدفعية المضادة ببلدة مانوبير البريطانية وبمدرسة فن المدفعية ببلدة لاركهيل حيث نال تقدير الامتياز. وارتبط عبد المنعم رياض بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها وحصل على وسام "الجدارة الذهبي" لقدراته العسكرية المتميزة في حرب 1948 فيما ظلت القضية في قلبه وعقله حتى لحظة الشهادة في حرب الاستنزاف. وبين التاسع من ابريل عام 1958 والحادي والثلاثين من يناير عام 1959 أتم العميد اركان حرب عبد المنعم رياض دورة تكتيكية تعبوية في اكاديمية فرونز العسكرية السوفييتية وحصل ايضا على تقدير الامتياز فيما يسجل تقريره عن خدمته في شعبة العمليات وهو يشغل منصب نائب رئيس الشعبة عام 1962 صفحة مجد له وللعسكرية المصرية معا. فقد جاء في هذا التقرير الذي كتبه رئيس شعبة العمليات حينئذ: "إن كل مايكتب عن اللواء عبد المنعم رياض لايفيه حقه فهو مثل يحتذى وقدوة في جميع النواحي ثقافة وذكاء وسعة في الأفق وانكار للذات وبمناسبة نقله من شعبة العمليات فإني أؤكد عن إيمان أن الشعبة خسرت نائبا لرئيسها وهو خير من ترشحه رئيسا لها". وخلال الفترة من السادس من مارس عام 1965 وحتى الثاني عشر من يوليو عام 1966 اتم الفريق عبد المنعم رياض دراسته بكلية الحرب العليا وكان قد ترقى الى رتبة الفريق خلال دراسته بهذه الكلية التي التحق بها في البداية منتسبا ولما عهد فيه مجلس التعليم انتظاما وجدية اجتمع في جلسة خاصة وقرر تحويله إلى دارس منتظم. وحسب التقرير الذي كتب عنه لدى تخرجه من كلية الحرب العليا فقد "أظهر الفريق عبد المنعم رياض ابتكارا ومبادأة ونشاطا كبيرا ومقدرة على تطبيق الناحية النظرية تطبيقا عمليا واقعيا وخلاقا. واللافت أن هناك رسائل أو أطروحات دكتوراه في جامعات مدنية غربية عن قضايا عسكرية اواستراتيجية متصلة بقضايا الحرب مثل اطروحة الدكتوراه التى تقدم بها دافيد بتريوس المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1987 لجامعة برنستون فى الولاياتالمتحدة وكانت بعنوان:"المؤسسة العسكرية الأمريكية ودروس فيتنام..دراسة عن الفعالية العسكرية واستخدام القوة في مرحلة مابعد فيتنام". وهناك كما هو واضح العديد من الكتب الجديدة التى تتناول الجنرال دافيد بتريوس كعسكرى محترف على مدى أكثر من ثلاثة عقود فيما تولى هذا الضابط القاريء مناصب قيادية وميدانية هامة سواء فى الحرب على العراق او الحرب على افغانستان وتجسد حياته العسكرية قصة الحروب ذات النهايات المفتوحة. هذا طراز من الجنرالات له ماله وعليه ماعليه اما عبد المنعم رياض "فطراز نادر.. نادر من القادة العسكريين" فهو العسكري الوطني المثقف وليس مجرد قاريء نهم مثل دافيد بتريوس أو مجرد جنرال محترف للحرب وبارع في فنون القتال واستراتيجيات المجابهة دون أن يعي المعني الفلسفي العميق لقضايا الحرب والسلام وارادة المقاومة ولماذا تكون الحرب ضرورة اخلاقية احيانا في سياق حركة التاريخ وسنن الله الفاعلة. هذا النوع النادر من القادة العسكريين الذي انتمى له عبد المنعم رياض بمقدوره ان يدرك مبكرا مآلات قضايا قد تستعصي على الفهم المبكر لجنرالات كبار مثل:"لماذا تهزم قوى عسكرية جبارة امام حركات مقاومة لايقارن تسليحها بأي حال من الأحوال بهذه القوى التي لايكون امامها سوى الانسحاب كما حدث للجيش الفرنسي في الجزائر وكما حدث للأمريكيين في فيتنام وللروس في افغانستان. فجنرال محترف ومتمكن فى العلم العسكري مثل دافيد بتريوس لم يكن بمقدوره ان يدرك مبكرا مآلات الحرب الأمريكية على افغانستانوالعراق وان هذه الحرب ستتحول الى مستنقع لقواته حتى بات الخيار الوحيد هو ضرورة الخروج من المستنقع والانسحاب اما ذلك الطراز النادر من الجنرالات المثقفين الذين يمكن وصفهم بالمفكرين العسكريين مثل عبد المنعم رياض فلهم شأن اخر ويتمتعون بالقدرة على القراءة المبكرة لتفاصيل المشهد. واليوم نحن في أشد الحاجة لعقلية عبد المنعم رياض التحليلية للسياق الشامل الذي تعمل فيه القوة العسكرية بأبعاده الاقتصادية والسياسية والثقافية واليوم حيث نعيش فيما يعرف بالمجتمع المعولم وحروبه الشبكية والفضائية التلفزيونية علينا تطوير هذه الأدوات التحليلية لحماية الدولة المدنية الديمقراطية وهوية مصر على قاعدة الوطنية المصرية والقومية العربية معا. هذه العقلية التحليلية للجنرال الذهبي مفيدة في جوانب متعددة تتعلق بالقوة العربية المقترحة فيما المخاطر تتعدد لكنها لاتختلف من حيث الجوهر في تمزيق الأوطان وتوهين الأمة العربية. والارهاب خطر اللحظة وهذه القوة العربية المشتركة يمكن أن تنقذ الأمة من مخاطر التدخل الأجنبي بذريعة محاربة الارهاب بل انها قد تكون خطوة حاسمة في بناء نظام عربي جديد يحل محل نظام عربي اهترأ وتمزق حتى يصح وصفه الآن "باللانظام" !. وفي كل الأحوال لسنا بحاجة لمزيد من الفرص الضائعة في وقت يقتحم فيه الخطر السافر والسافل اوطاننا ويهدد بوقاحة بتمزيقها وتشطيرها وتغيير خرائطها ولقد قالها الجنرال الذهبي عبد المنعم رياض منذ سنوات بعيدة :"العمل العسكري المشترك اعلى صور التعاون السياسي". وهنا علينا أن نستعيد ونستلهم المعنى والمغزى في قصة الجنرال الذهبي !..هنا في الخندق الأول للموقع الأول بالنسق الأول على خط النار وقف البطل مفردا في صيغة وطن وحلم شعب وقضية امة..ومن هنا اختار "فارس الشهداء" عبد المنعم رياض ان يوجه الرسالة لكل من يعنيه الأمر:"مصر لن تموت رغم غيوم الخديعة وجبروت الغدر والمكر المخاتل..مصر باقية شامخة مابقى الزمان والمكان". وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد نعى يومئذ للأمة العربية "رجلا كانت له همة الأبطال وتمثلت فيه كل خصال شعبه وقدراته واصالته" موضحا ان الشهيد عبد المنعم رياض "كان في جبهة القتال وأبت عليه شجاعته الا ان يتقدم الى الخط الأول بينما كانت معارك المدفعية على أشدها". وكان لجمال عبد الناصر أن يبتسم لأول مرة بعد هزيمة يونيو وعبد المنعم رياض يطلب منه بالحاح بعد ان اختير رئيسا للأركان يوم الحادي عشر من يونيو 1967 آلا يقبل أبدا أى عرض لاعادة سيناء لمصر حتى دون شروط، مؤكدا على أن الحرب واجب اخلاقى لاستعادة هذه الآرض المصرية الغالية والثأر لهزيمة يونيو ودماء الشهداء "حتى لاتضيع الأخلاق ويتحول البلد إلى كباريه أو ملهى ليلي". وقال فارس الشهداء عبد المنعم رياض:"لن نستطيع ان نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة..وعندما اقول اقول شرف البلد فلا أعني التجريد وإنما أعني شرف كل فرد في هذا البلد". ولعل القراءة العميقة لمغزى هذه العبارة التى قالها عبد المنعم رياض في لحظة حالكة يقف فيها العدو على شاطىء القناة يمكن ان تساعد في فهم اللحظة المصرية الراهنة التي تستدعي ان تتكاتف كل الجهود والسواعد المصرية من اجل مصر. ويمكن في سياق كهذا استعادة ماقاله الفريق اول محمد فوزي في كتابه "حرب الثلاث سنوات :ان " الأمن القومي ليس مسألة عسكرية فحسب بل قضية متعددة الأبعاد والعوامل تختلط فيها السياسة بالاقتصاد والجغرافيا بالعسكرية والوضع الاجتماعي بالأمن والنظام السياسي بالاستراتيجية". وفي هذا الكتاب الهام عن حرب الاستنزاف يخصص الفريق اول محمد فوزي بعض الأسطر للحظة استشهاد عبد المنعم رياض فيقول:"جاءت لحظة من اللحظات السيئة التي لاتحدث الا نادرا اذ شاهد العدو رتلا من عربات القيادة قادما من بور سعيد الى الاسماعيلية على الطريق الموازي لقناة السويس واستشعر ان به شخصية عسكرية هامة". ويضيف فوزي:"تتبع العدو سير هذا الرتل حتى موصل الى الموقع رقم 6 في الاسماعيلية واطلق عددا من قذائف المدفعية 155 مم فاستشهد البطل عبد المنعم رياض وفقدت بذلك نائبي وزميلي وصديقي يوم 9 مارس 1969 في الخندق الأول للموقع الأول في النسق الأول لقوات الجيش الثاني وتحولت جنازته في وسط القاهرة الى ملحمة وطنية". كان فارس الشهداء و"صاحب التفكير المختلف" يؤمن بأن الغد سيكون افضل من اليوم ويرى ان مكان القادة الصحيح هو وسط جنودهم وانه لابد من الجندى المثقف والفرد المتعلم في المعركة..هنا كان يبدع ثقافة جديدة نحن بحاجة ماسة لها اليوم. هنا المدى وهج والشهيد واثق بعدالة القضية وشرف الحرب وضرورة الثأر حتى لاتنحني الجباه ويموت الأمل والمعنى..هنا في الموقع رقم 6 كان لسان حال فارس الشهداء والجندي المثقف يقول :"ياوطني لاتحزن ان سقطت قبل موعد الوصول فالدرب طويل وسنعبره على مشاعل الدماء وبأرواح الشهداء". تحية لكل شهيد في يوم الشهيد وتحية لروح الجنرال الذهبي عبد المنعم رياض وفكره الاستراتيجي في لحظة تنطلق فيها دعوة مصرية نبيلة لتشكيل قوة عربية مشتركة تكون درعا للأمة التي يتهددها عدو يتجدد في أشكال جديدة أخطرها الآن الارهاب.