قرب أواخر شهر أغسطس 1948 تم القبض علي وأودعتني سلطات الأمن في سجن الأجانب بالقاهرة. كان معي في هذا السجن آخرون من بينهم ثلاثة من "الأكراد"، طلبة يدرسون في الأزهر، اعتقلهم البوليس السياسي لأنه ضبط عندهم كتاب "رأس المال" ل"كارل ماركس" ترجمة أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة "فؤاد الأول" "راشد البراوي"، رئيس البنك الصناعي ثم مؤسسة السينما لفترة في عهد ثورة 23 يوليو. اعتبرهم البوليس السياسي يساريين يجب ترحيلهم ليعودوا إلي بلادهم فوضعهم في سجن الأجانب تمهيداً لذلك. كان من بينهم شاب اسمه "حسين" يتحدث باللغة العربية الفصحي، وجهه مبتسم ورأسه مستو، مبطوط من الخلف. كان يحكي لي عن مأساة بلادهم، عن ناسها، عن جبالها الشاهقة تُغطيها طبقات الثلج الأبيض في الشتاء، فإذا ذابت مع الدفء تفجرت فيها الزهور البرِّية في مهرجان من الألوان. منذ تلك الأيام استقرت "كردستان" في ركن صغير من أركان النفس، فصرت أحاول أن أُتابع بعضاً مما يحدث هناك، كما كنت أكتب أحياناً عنها. لذلك عندما لمحت في برنامج مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الثالث والثلاثين فيلماً يتعرض لمشكلة الأكراد في "تركيا" توجهت لرؤيته. تم تصوير هذا الفيلم في "ساريكاميس كارس"، أي في جزء من المنطقة الجنوبية الشرقية من "تركيا" التي عاصمتها "ديار بكير" وهي منطقة يقطن فيها مليونان وخمسمائة ألف من "الأكراد". يبدأ الفيلم في قرية تحتضنها الجبال في "ساريكاميس كارس" ثم ينطلق إلي "إسطنبول"، و"اليونان"، و"السويد"، و"الدانمارك"، و"النرويج". إنه يتابع حياة ثلاث أُسر كردية في هذه القرية الجبلية وبعدها أثناء هجرتهم منها إلي "إسطنبول" حيث استقرت أسرتان منهم، بينما تُواصل الأسرة الثالثة رحيلها إلي النرويج مارة بعدة بلاد في طريقها. نُشاهد حياة الأسر القاسية في القرية بسبب ظروف الحرب التي يشنها النظام التركي علي الأكراد المطالبين بنوع من الاستقلال الذاتي، وفي "إسطنبول"، ثم حياة إحداها في "أوسلو" عاصمة "النرويج" بعد أن وصلت إليها في نهاية رحلتها الطويلة. تصوير يجذب الانتباه يتميز الفيلم بتصوير المناظر الطبيعية في جبال "ساريكاميس كارس"، وأحياء مدينة "إسطنبول" تلك المدينة الجميلة المكونة من سبع جزر، التي تنطلق فيها الكاميرا بين حارات الجزء الأسيوي الفقير والمنطقة الأوروبية الأغني والأكثر تطوراً، بين شواطئ خليج "البوسفور" مع الصيادين والبيوت المتزاحمة المنهارة لتأخذنا إلي بيوت الليل، والشوارع التي يتجمع فيها المتحولون جنسياً "المخنثين". هكذا يبرز الاختلاط القائم في المدينة بين الشرق الإسلامي وبين جوانب من الثقافة والمعمار الأوروبي. أجادت الكاميرا أيضاً تصوير وجوه الأطفال، والكهول، والعواجيز المنتمين للأسر الثلاث وانفعالاتهم. كانت وجوا نحتتها قسوة حياة هؤلاء الرجال والنساء عاشوا سنين القحط والخطر في قريتهم. كانت لقطات الكاميرا تُعبر بحساسية عن معاناتهم. مع ذلك رغم مستوي التصوير الجيد كانت النقلات في كثير من الأحيان فجائية، ينقصها الانسياب اللازم للتتبع، والتأمل، ربما بسبب التحرك المستمر بين أفراد الأسر الثلاثة، وكثرة الأحداث التي وقعت لهم مما تولد عنه أحياناً احساس بقدر من البدائية في التصوير. حشد المآسي ازدحم الفيلم بعدد كبير من المآسي كأنه أُريد بهذا تكثيف التأثير علي المتفرج. وقد أدي هذا إلي عكس النتيجة فالاستثارة المستمرة صنعت إحساساً بالتبلد، وعدم الاقتناع بهول ما يحصل فانخفضت درجة الانفعال به إلي حد الملل أحياناً ما عدا عند أولئك الذين يهوون الميلودراما. أدت هذه الكثرة من الأحداث إلي فقدان الانسياب في القضية الأساسية ومضمونها أو معناها. كذلك كانت الموسيقي المصاحبة لهذه المآسي صاخبة غطت علي المؤثرات الصوتية الطبيعية التي تُصاحب الحياة عادة مثل حركة المدينة، وأصوات الطبيعة بأمواجها ورياحها ورفرفة أشجارها ومطرها. هذا ما عدا أغنية كردية مليئة بالألم رددها عدد من القرويين بعد قتل مجموعة من المناضلين المسلحين الثائرين علي النظام. كذلك تكررت مشاهد الجري المصورة بحركة بطيئة للكاميرا تُوحي بالميلودراما، و مشاهد الضرب والعنف كلما حدث نزاع داخل ألأسرة أو صدمة من الصدمات. جوهر المأساة تعرض الفيلم بصدق إلي بعض العادات القبلية والذكورية التي تتسم بالعنف والاستبداد والقمع والحرية الفردية في حياة الأكراد، لكن الأهم في رأيي هو أن الصورة التي أعطاها للقضية كان فيها تجاهل واضح للحقائق الأساسية والعوامل التي أدت إلي ما حدث في حياة الشعب الكردي. كاتب السيناريو ومخرج هذا الفيلم اسمه "ماهسون كيرميزيجول" وهو تركي من أصل كردي، ونظراً لحساسية السلطة بل والشعب التركي ازاء كل ما يتعلق بالقضية الكردية إلي درجة رفض استخدام وصف كردي لأي مواطن من هذا الأصل يبدو أنه حرص علي عدم إثارة غضب السلطات من فيلمه حتي يتمكن من الحصول علي الموافقة بعرضه، فالقضية الكردية بمثابة اللغم في الحياة التركية والإشارة إلي حقائقها تُهدد بحدوث انفجارات. لذلك قد يكون له العذر في بعض ما قدم. مع ذلك فقد صور القضية الكردية كأنها ناتجة أساساً عن نزاع داخلي في صفوف الأكراد أنفسهم بين الثوار الذين يسعون إلي تحقيق قدر من الاستقلال الذاتي وإلي وحدة الشعب الكردي الموزع في عدة أقطار هي تركيا والعراق وإيران وسوريا، وأغفل حقيقة أن بلاد الأكراد كانت ومازالت محتلة خاضعة للقمع والتفرقة، وأن لأمريكا وإنجلترا وفرنسا وروسيا وغيرها، لشركات البترول الكبري مصالح وأطماع فيها بسبب منابع النفط الغنية في الأرض التي يعيش عليها الأكراد، فقد ترتب علي هذه الأوضاع مؤامرات ومعارك مسلحة وحروب لانهاية لها. كما طمس دور النظام التركي في اضطهاد الأتراك وقهرهم، والحروب والمذابح التي شنها ضدهم للسيطرة عليهم، و ما قامت به الحكومات التركية المتتالية من حملات للهجرة الإجبارية، وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعتها لتُجرد حركات المقاومة من قاعدتها، ومن حمايتها الشعبية، لكن ربما ما كان في إمكان مخرج هذا الفيلم أن يكتب السيناريو متضمناً هذه الحقائق المعروفة التي تُنكرها القوي المسيطرة المحلية والعالمية. مغازلة السلطات يضاف إلي ما سبق أن الفيلم شابته أيضاً مغازلة واضحة للاتحاد الأوروبي أو علي الأقل للسلطات والنظم في بعض البلاد الأوروبية عند تعرضه لمعاملة الأكراد فيها، فقد صور هذه النظم وبالذات في "النرويج" علي أنها تتعامل مع الأكراد بقدر كبير من التعاطف والحساسية وتستقبلهم بروح إنسانية، فتغدق المساعدات عليهم وتُوفر لهم الخدمات الصحية بل تقوم بتركيب الأجهزة التعويضية للذين فقدوا ساقاً أطار بها لغم أرضي بينما الحقيقة أن هذه الحكومات والمؤسسات استقبلتهم أساساً كقوي عاملة رخيصة، لا حقوق ولا ضمانات لها، ثم بدأت تستغني عنهم وتطردهم عندما انتهت حاجاتهم إليهم. في عالم يطغي القوي علي الضعيف، والغني علي الفقير يبتعد الفن في كثير من الأحيان عن الصدق فيفقد جوهره. لكن الفنان الحقيقي يبحث بدأب عن وسيلة للتحايل علي هذا الواقع حتي ينتج فناً ينتصر للإنسانية ضد النظم والحكام الذين لا يبحثون إلا عن خدمة مصالحهم بأي ثمن، ويزيفون التاريخ والواقع لهذا الغرض.