كعادته كل عام .. وفي محاولاته الطموح لكي يحتفظ بسمعته كأهم مهرجان سينمائي في العالم.. يسعي مهرجان «كان» كل عام إلي الحفاظ علي توازن سعي إليه منذ سنوات السبعين.. وهو التركيز علي الأعمال الأخيرة لكبار المخرجين .. ومحاولة تقديم واكتشاف المواهب الجديدة في هذا العالم السينمائي الذي يتطور بسرعة مذهلة .. والتي يسعي هذا المهرجان الكبير إلي رصد التطورات الأخيرة بمنظار حيادي حقيقي .. لا يخلو أحياناً من تطرف أو من مجاملة. كثرة المهرجانات السينمائية .. وتفرعها وامتدادها علي طول وعرض القارات الخمس .. جعل من التنافس علي الحصول علي أفلام كبار المخرجين، القضية الأولي التي يواجهها أي مهرجان يسعي دائما إلي فرض جماهيريته وتفوقه. لا لشراء الأفلام ومهرجان «كان» لا يحاول «شراء» الأفلام الكبري لتعرض علي شاشاته كما تفعل بعض المهرجانات الوليدة التي تحاول فرض وجودها علي الخارطة السينمائية مستعينة بأموالها وبالوهج الدعائي والمادي الذي توفره .. مهرجان «كان» شأنه شأن المهرجانات الأربعة والخمسة التي تحتل مركز الصدارة في التقييم المهرجاني العالمي .. لا تحتاج إلي هذا الغطاء المادي كي تفرض وجودها لأن تاريخها ووهجها السينمائي كاف لأن يجذب إليها عشرات الفراشات الحلوة كي تستضيء بنورها حتي لو أحرقت هذه الأنوار أجنحتها الملونة. دفاتر قديمة مهرجان «كان» بالذات يعتمد علي دفاتره القديمة المتألقة وذكرياته التي لا تبارح الأذهان وصداقاته المتينة مع مخرجين اكتشفهم أو وجه الأنوار إليهم أو وقف إلي جانبهم وقفة الأسد. وهكذا نري «وودي آلان» مثلا لا تفوته فرصة في أن يقدم آخر نتاجه إلا وذهب بها إلي هذا المهرجان الذي اطلقه عملاقا سينمائية منذ بدايته غير عابيء بالتجاهل الأمريكي المؤلم الذي واكب صاحب «مانهاتان» في بداياته. وكذلك الأمر علي« كلينت ايستوود» الذي اعطاه مهرجان كان «الهالة السينمائية» التي يستحقها وأجبر هوليوود علي الاعتراف به كواحد من أهم مخرجيها المعاصرين وأكثرهم تفوقا. البرتغالي «أوليفيرا» الذي جاوز الخامسة والتسعين من عمره وما زال عشق السينما يتوهج في دمه .. يقدم أفلامه واحدا تلو الآخر لتعرض في هذا المهرجان غير عابئ .. إذا كانت الإدارة ستضمها في المسابقة الرسمية أو في أية تظاهرة فنية مصاحبة .. المهم عنده أن يتواجد علي «الكروازيت» وأن تتألق أفلامه كحبات اللؤلؤ علي شاشات «قصر المهرجانات» «عباس كيروستامي» الإيراني .. الذي فتحت له فرنسا عن طريق مهرجانها الشهير الأبواب واسعة أمامه وتركته يحافظ علي «نفسه»، الإيراني مهما كان نوع الأموال التي تمول أفلامه ومصادرها. الثائر المتمرد حتي «جان لوك جودار» الثائر السينمائي المتمرد وزعيم حركة التمرد الشهير والتي أوقفت المهرجان في الستينات ومنعته من الاستمرار تضامنا مع ثورة المثقفين والطلبة في شهر مايو الشهير.. نسي كل شيء وقدم أفلامه فيلما تلو الآخر لأعتاب هذا المهرجان الذي تزداد هالته إشراقا وتألقا وتأثيرا. كبير مخرجينا «يوسف شاهين» لم ينل حقه من التقدير كما ناله في «كان» رغم اشتراكه في مسابقة مهرجان «برلين» وفوزه بإحدي جوائزها .. واشتراكه بمهرجان «البندقية» ولكن تبقي مساهماته «الكافية» لها طعم ومذاق خاص، كان «شاهين» دائما يذكره بشغف وشوق وكأنه يتحدث عن محبوبة له طال انتظاره لرؤيتها. مايك لي الإنجليزي.. فيتالكوف الروسي، ولشيتي الإيطالي، وكيتانو الياباني كلهم يأتون مغمضي العين إلي عتبة المهرجان يقدمون أفلامهم دون اعتراض ودون مناقشة، لهذا أصبح مهرجان «كان» بيتهم الرسمي.. ولا أحد منهم يريد أن يكون الابن العاق. أسماء معتادة وهكذا مثلا نجد هذه الأسماء المعتادة والشهيرة تتواجد هذا العام بقوة في عيد مايو السينمائي لهذا العام .. مقدمة خير ما عندها غير عابئة بمال أو جائزة. إنها تعود إلي مصدر النبع وتستحم بمياهه النقية الصافية التي ستعيد للسينما التي نحبها رونقها وبهاءها وسحرها. أوليفيرا وجودار يكتفيان هذا العام بالإطلالة من خلال النظرة الخاصة. الأول يقدم فيلما مأخوذا عن قصة برتغالية عاطفية شهيرة تدعي «انجليكا» بعد أن غير عنوانها وجعله «حالة انجليكا الغريبة». أما جودار فيقدم فيلما سياسيا بعنوان «فيلم اشتراكي» وهل ابتعد جودار في سنواته الأخيرة عن السياسة منذ أن جعلها هدفه الأول ليعلن بواسطة سينماه الجريئة والطموح والمجنونة أحياناً عن تقلباتها وعن موقفه الواضح منها منذ أفلامه عن القضية الفلسطينية، وحتي هذه الساعة التي عادت فكرة الاشتراكية تطل برأسها من جديد بعد الفشل القاسي الذي مني به النظام الرأسمالي وأزمته الاقتصادية الأخيرة التي هزت أركان العالم. ولكن .. هل سيقف جودار من الاشتراكية الجديدة وقفة الصديق المدافع أم السينمائي الخائب الأمل . نظرة خاصة الأنظار تتجه إلي «النظرة الخاصة» لتري آخر اندفاعات جودار السينمائية ولترقب أيضا نحو السينما الرومانية التي أهدتها قبل سنوات سعفتها الذهبية الكبري من خلال فيلم جديد لكريستي بوبو بعنوان «الغجر». هذا إلي جانب أربعة أفلام أولي لمخرجيها اكتشفتها إدارة المهرجان وتقدمها في إطار هذه «النظرة الخاصة» التي كانت دائما مهداً لمخرجين كبار .. وجدوا في المسابقة الكبري هدفهم عندما شبوا عن الطوق، واثبتوا مهارتهم في هذه المسابقة الجانبية التي يعتبرها رائدو مهرجان «كان» بئر المفاجآت والصندوق الذهبي الذي يخفي الجواهر القادمة. أفلام أربعة جاءت من زوايا العالم الأربع لتتلاقي كالروافد الصغيرة الحلوة في مهرجان «كان» السينمائي الجامح. لكن تبقي المسابقة الرسمية محط الآمال والهدف المتلألئ الذي يسعي إليه كبار المخرجين وصغارهم الموهوبين. «وودي آلان» بفيلمه الأخير «ستقابل رجلا غريبا قائما وطويلا» و«أوليفر ستون» في جزئه الثاني عن حب المال في نيويورك «وول ستريت» اختارا ان يقدما فيلميهما خارج التسابق الرسمي وكذلك فعل صاحب «العلاقات الخطرة» ستيفن فريرز في فيلمه الأخير «تامارا درو» الذي طال انتظاره والذي يعود إلي «كان» بعد أن خاب أمله في برلين عندما عرض تحفته الأخيرة «شيري» المأخوذ عن قصة ل«كوليت» والذي مر مرور الكرام رغم جماله الفائق. كذك فعل المخرج الروسي «أوتار اوسلياني» المقيم في فرنسا منذ عشرين عاما والذي قدم للسينما الفرنسية أفلاما مدهشة ذات طابع روسي اختلط بمهارة مع الحساسية والشفافية الفرنسية. اوسلياني هذا العام يقدم فيلمه المسمي (شانتراباس) في عروض خاصة خارج المسابقة أسوة بباتريس كوزمان الذي يعرض فيلمه «الحنين إلي النور» ضمن الإطار نفسه. وتبقي المسابقة الرسمية التي امتلأت هذا العام بأسماء كبيرة وأسماء ناشئة تقف علي قدميها بثقة لتنافس هذه الأسماء التي تحيط بها هالات الشهرة والتقديس. ولما لا ألم يحقق فيلم الدرس الفرنسي قبل عامين لمخرجه الشاب الصغير المعجزة ويجعل فرنسا تفوز بالسعفة الذهبية التي طالما حلمت بها ولم تنلها رغم وجود أسماء مخرجين في المنافسة .. يكفي ذكر اسم واحد منهم ليجعل المخرج الصغير يعود علي أعقابه. وأليس هذا ما حدث مع الفيلم الروماني الذي قوبل بإهمال شديد من النقاد والجمهور نظرا لعدم وجود سابقة سينمائية تثير الانتباه جاءتنا من السينما الرومانية. فإذا بهذا الفيلم الصغير الذي يتحدث عن الإجهاض في عهد شاوشيسكو من خلال فيلم لم يزد تكاليفه علي تكاليف أي فيلم قصير تنتجه دولة صغيرة.. يفوز هو أيضا بالسعفة المشتهاة. لذلك تسابق المخرجون الفرنسيون الشبان إلي تقديم أفلامهم ومنهم الجزائري «رشيد بوشارب» الذي سبق لممثليه الجزائرين أن فازوا جماعة بجائزة التمثيل الكبري قبل أعوام.. وها هو اليوم يعود مرة أخري إلي كان بفيلم جديد يدعي «الخارجون علي القانون» يروي فيه انحراف الجزائريين المهاجرين إلي الإجرام .. بعد أن دفعتهم الظروف القاسية ومجابهة العنصرية الأليمة إلي ذلك. «برنارد تافرنييه» واحد من أقطاب السينما الفرنسية الكبار يقدم فيلما تاريخيا له انعكاسات سياسية معاصرة شأنه دائما باسم «الأمير مونبنسييه». أمريكا .. وياللعجب تكتفي هذا العام بتقديم فيلم واحد في المسابقة يحمل اسم «بصمة شريفة» ويتكلم عن حرب العراق ويشترك فيه نجمنا الشاب خالد النبوي في دور مساعد. «تكيتا فيالكوف» يعود لتقديم الجزء الثاني من ملحمته عن الثورة البلشفية وتوابعها والتي بدأها بفيلم «الشمس المحرقة» الذي فاز بالجائزة الكبري قبل أعوام، الفيلم طال انتظاره من كل عشاق فيالكوف لأنه سيعكس رأيه صريحا فيما يجري الآن في البلد الذي كان يوما حلما ذهبيا وانقلب إلي كابوس. «مايك لي» الإنجليزي يعود بفيلم عن الواقع الاجتماعي في بريطانيا باسم «سنة أخري» ونحن مازلنا نذكر فيلمه «حقائق وأكاذيب» الذي فاز من أجله أيضا بجائزة كبري في كان. «عباس كياروستامي» يقدم فيلمه الفرنسي الأول الذي أخرجه بعيدا عن إيران باسم «صورة طبق الأصل» وتلعب بطولته النجمة الكبيرة جولييت بينوش. ولكن الأنفاس تلتهب وتتقطع بانتظار ما سيفعله السندرو جونزاليس أناريتو صاحب الفيلم العملاق «بابل» الذي يعود مرة أخري متكتما حول موضوع فيلمه الجديد الذي يحمل اسم «الجميلة». المخرج الياباني «تاكيشي كيتانو» الذي انزاحت عنه الأنوار مؤخرا .. يعود مرة أخري ليمسك بقرص الشمس في فيلم اطلق عليه اسم «اعتداء». مرور عابر هذا بالنسبة للكبار الذين نعرفهم والذين يتركون موعد كان يمر عابرا إذا كانت لهم أفلام جاهزة.. أما الأسماء الجديدة هذا العام .. فأغلبها قادم من آسيا والبعض من أمريكا اللاتينية بينما اكتفت الدول الكبري «إيطاليا وانجلترا والمانيا وأمريكا» بالمساهمة بفيلم واحد تاركة المجال لمخرجين آخرين وبلاد أخري تقتحم الميدان وحلبة الصراع. كعادته كل عام يبقي مهرجان «كان» مهرجان المفاجآت. والمهرجان الذي يتصل به الحديث والقديم وتتجمع فيه القارات الخمس وكالعادة أيضا ومع كل الأسف والحزن يتبقي الغياب الأكبر هو غياب السينما العربية .. بكل دولها وكل مخرجيها وكل اتجاهاتها. فعلي من تقع مسئولية هذا الغياب.. وهل هذا الغياب الفني .. انعكاس أليم للغياب السياسي الذي تعيشه الدول العربية الآن. جواب حائر لا إجابة له إلي تصفيق أجنحة طائر أبيض قصت أجنحته .. يحاول الطيران ولا يستطيع .. فهل ننتظر حتي تنبت له أجنحة جديدة أخري؟