هل يمكن أن نعتبر التجريب الفني هدفًا لذاته يعيش الفنان والحركة الفنية من أجله عشرات السنين بغير إنجاز ناضج؟.. أم أنه ضرورة لاستكشاف رؤي جديدة لأي فنان من أجل استكمال «مشروعه الإبداعي» قبل- وليس بعد- تقديم عمله إلي الجمهور؟.. وهل يقتصر هذا التجريب علي اللغة والأدوات والمفاهيم التقنية والجمالية فحسب، أم يشمل إشكاليات الفن جميعًا في علاقتها بقضايا الإنسان والواقع والهوية والمتغيرات المستمرة علي الصعيدين المحلي والدولي، وفي علاقتها- فوق ذلك- بالمتلقي وقدرته علي الاستيعاب والتفاعل مع ما يقدم إليه؟ أظن أن واقع النشاط الفني الذي يتبناه قطاع الفنون التشكيلية منذ أواخر الثمانينات هو التجريب من أجل التجريب، وأنه ألقي عرض الحائط بحق الجمهور في أن يفهم ويتفاعل مع ما يعرض، فهو- أي الجمهور- ليس موجودًا أصلاً علي الخريطة منذ البداية، وليس له أن يسأل عن نصيبه من الدعم الفني كحق له علي الدولة، وهي تنفق ملايين الجنيهات علي صالونات الشباب والبيناليات الدولية وورش العمل المقامة للتجريب كل عام من القاهرة حتي أسوان، كما أنه ألقي عرض الحائط بحق الفنانين من غير التجريبيين (علي طريقة صالون الشباب ومعارض مثل: ماذا يحدث الآن.. ولم لا.. وبينالي الإسكندرية، في الحصول علي مكان لهم علي خريطة القطاع، الذي كان يحمل من قبل اسم المركز القومي للفنون التشكيلية، وكأن كلمة «القومي» هي الرمز الكودي لمعني «التجريبي»، وكأنما هو ليس مسئولاً عن إشباع حاجة الأمة كلها إلي الفن وتأكيد هويتها من خلاله، وعلي مدي عشرين عامًا أو يزيد تم استراع عدة أجيال من الفنانين الشباب شبت علي هذا المسار، ورأينا نتائجها مؤخرًا في بينالي الإسكندرية الفائت ومعرض «لم لا» الذي أثار عدد غير قليل منها استياء الناقد د.خالد بغدادي في مقاله الأخير «بالقاهرة»، وإن كان يؤازر فكرة المعرض الذي يضمها ويشيد بأهدافه، ويري أن المشكلة تنحصر- فقط- في سوء اختيار الفنانين، وليست في تبني الدولة- من خلال القطاع- لاتجاه بعينه وتشجيع الشباب بشتي السبل للمضي فيه، وإعطائهم الحق- باسم التجريب وحرية التعبير- لتسفيه كل شيء، من القيم الجمالية حتي القيم المعنوية والأخلاقية! قد أبدو للبعض معاديا للتجريب، والحقيقة عكس ذلك، إذ أراه فريضة علي كل مبدع حقيقي في مرسمه، وحق لأي جماعة لو اختارته عنوانا لها، مثل جماعة التجريبيين بالإسكندرية في ستينات القرن الماضي، وقد كتبت مرارًا مشيدًا بهم، بل أري من حق الفنان أن يقيم معارض خاصة بتجاربه المعملية، وهو ما فعله الفنان الكبير الراحل منير كنعان طوال حياته الفنية، فذلك خياره وحده ولو وهب له عمره.. لكن هل يمكن أن يكون ذلك خيار الدولة؟.. وهل يمكن لها أن تفوض في ذلك قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة وتسمح له بتخصيص الجانب الأكبر من ميزانيته السنوية لتشجيع أجيال الشباب علي المضي نحوه علي حساب مصالح بقية الأجيال، بإقامة مسابقات دورية للشباب بجوائز سخية، وإفساح جداريات ضخمة لهم في بعض الشوارع لينفذوها بأساليب الصالون في بلد تصل نسبة الأمية الجمالية فيه إلي 99.9%، وإقامة ورش عمل تجريبية من أجلهم تصاحب معارضهم السنوية، في الوقت الذي يعلن القطاع عجزه عن القيام بكثير من التزاماته القومية! وحتي لو كانت الدولة حرة فيما تفعل وما تمارسه ليل نهار من تجارب عقيمة يدفع الشعب ثمنها في مجالات أخري، فينبغي أن نقول لها إنها ليست حرة في ذلك بالنسبة للثقافة والفن، لأن نتائج التجارب الفاشلة في الأمور الاقتصادية أو حتي السياسية قابلة للتعديل والإصلاح بعد أن تذهب الحكومة وتأتي غيرها، أما في الثقافة والفن فإن الأمر يتعلق بزرع وإرساء قيم وأفكار يصعب إصلاحها قبل زمن طويل جدًا كعلاج الأرض المملحة، لأنها تتعلق بنمط أفكار الشباب الذين سيقودون الحياة الفنية والثقافية في المستقبل بهذه الأفكار، فيشكلون علي شاكلتهم أجيالاً أخري قادمة، بما يعني أن الدولة تضيع المستقبل كما ضيعت الحاضر، وأظن أن ذلك يتحقق الآن بالفعل! إن القطاع يبدو وكأنه يعتنق أيديولوجية علي غرار الأيديولوجيات السياسية للنظم الشمولية السابقة، ويعتبر قضيته برمجة الفنانين للسير في اتجاه معين مستعينًا بشتي الإغراءات الممكنة، ومن يعجز أو يرفض السير فيه يصبح كطريد الجنة، والأخطر من ذلك أن التجريب بالنسبة لرواده الجدد لا يقتصر علي اللغة والأدوات والتقنيات، بما في ذلك استبعاد خيارات الفن التاريخية (التصوير والنحت والحفر)، لتحل محلها وسائل (المالتي ميديا)، بل يمتد إلي الأفكار المدمرة للقيم علي النحو الذي رأينا نماذج له في المعارض المتوالية. وقد يعترض القطاع قائلاً: إنه- فقط- يشجع حرية التعبير وبالتالي يؤكد الديمقراطية وليس الشمولية.. وأقول إن ذلك غير حقيقي. لأن الحرية لا تُملي من أعلي.. إلا بالطريقة الأمريكية التي ثبت فشلها، وإنما تأتي عبر كفاح يصعد من أسفل معبرًا عن إرادة البشر للحرية، وها هي نتائج حرية «القطاع» المزعومة تتجاوز كل الخطوط الحمراء لحرية التعبير، لتضرب ضمن ما تضرب صميم المقدسات والقيم الإنسانية النبيلة.. وأنا أدرك أنها في جوهرها تعبير عن حالة مكبوتة من التمرد ضد كل الكوابح والسلطات و«التابوهات» وتنفيس عن نوازع الغضب والسخط لدي جيل أو أكثر، فقد الثقة في كل المرجعيات، واليقين في كل الثوابت، والأمل في أي تغيير أو إصلاح يأتي من أعلي أو من أسفل، فكانت مثل هذه التعبيرات العبثية أو العدمية أو الفوضوية أو الساخرة، إعلانًا عن وجوده المحبط بالتحدي السلبي.. وهي حالة عرفتها كل حركات التمرد في كل زمان ومكان ووجدت انعكاسًا لها في كل فن، وقد تكون في بدايتها حالة مشروعة وصحية، ثم تتحول إلي عكس ذلك عندما لا تجد من يحتضنها وينير لها الطريق ويعطيها الأمل، بل علي النقيض من ذلك تجد من ينفخ فيها ويضخمها لامتصاص شحنة الغضب قبل أن تتحول إلي طاقة مدمرة، وقد تجد من يستغلها من الخارج لأغراض أخري.. وسواء هذا أو ذاك من أغراض فإن رياح النافخين تأتي من خارج إطار الفن، حتي لو جاءت من جهات فنية هنا أو هناك، وقد رأينا كيف استغل وسطاء الفن في دول الغرب أعمال فناني ما بعد الحداثة المتمردين علي كل شيء وسوِّقوها ثم أدخلوها المتاحف لتحظي بالاعتراف والقيمة الفنية ثم تربحوا من ورائها. وكي لا يكون كلامي نظريا مجردًا، أسوق ثلاثة أمثلة من المعرضين السابق ذكرهما.. الأول هو عمل الفنان وائل شوقي في بينالي الإسكندرية بعنوان «المعارك الصليبية» الذي فاز بالجائزة الكبري ومقدارها 000 100جنيه، وهو تعليق علي المعارك التاريخية التي استمرت قرونًا وانتهت بانتصار جيوش الناصر صلاح الدين علي جيوش الفرنجة وتحرير القدس الشريف وأرض فلسطين من احتلال دويلات أوروبا.. فماذا قدم الفنان؟.. لقد حولها إلي مجرد فرجة هزلية أبطالها مجموعة من الصبية الأفارقة البائسين المتخلفين وهم يمتطون فريقين من الحمير أمام قلعة مهجورة يرفرف فوقها العلم الصليبي، دون أن يحدث حتي عراك بين الفريقين، كل هذا من خلال فيلم فيديو أنفق علي إنتاجه في كينيا الكثير ولا نعرف مصادر تمويله.. والعمل الثاني لنفس الفنان عرض «ولم لا؟» بعنوان «تليماتش السادات» حول اغتيال الرئيس السادات بأيدي عناصر الإرهاب بطريقة ساخرة تسخر من القيمة الاستشهادية للرئيس الراحل، الذي مهما اختلفنا معه لا ننكر استشهاده في سبيل الوطن، والعمل الثالث للفنان عبدالوهاب عبدالمحسن الذي تجاوز سن الشباب بكثير، وعرض بنفس المعرض أيضًا، قام فيه برص ثلاثة آلاف رغيف خبز محمص وألصقها بالسليكون، وشكل بها جدارًا عاليا، وقيل إنه رمز لحرمان الشعب من الخبز!!.. ويوافقني كل من زار المعرض علي أنه لا علاقة بين هذا المعني وبين العمل الذي شاهدوه، وقيل الكثير حول اقتباس فكرته من أعمال أجنبية، وقد لا يكون هذا مؤكدًا، لكن المؤكد أنه يهين الخبز والشعب معاً، ويشوه معني مقدسًا للخبز الذي يقسم عليه أبناء الشعب ويسمونه «النعمة»، ويعتبرون أن وجود لقمة صغيرة علي الأرض جرام وذنب يرتكبه من ألقاها ومن لا يرفعها ويقبلها! واستحضر هنا نموذجين آخرين من أرشيف صالون الشباب سارا في نفس المسار، وكاد أولهما أن يزج بصاحبه الفنان الشاب إلي السجن، بعد أن أحيل إلي النيابة العامة، لأن ما فعله يدخل تحت وصف الجريمة، حين عرض أجزاء من جثة رجل بعد قيامه بنبش مقبرة وانتزاعها منها.. أما الآخر فعرض شكلاً مجسمًا يضم كمية من الرؤوس والأرجل لطيور مذبوحة، فاستدعت رائحتها التي فاحت حين تساقطت طبقة المادة الخارجية العازلة، عددًا من الثعابين في جنح الليل إلي داخل مجمع الفنون آتية من بطن جسر النيل، وزحفت إلي مكان العمل قبل افتتاح الصالون مثيرة لهلع الجميع في الصباح! وإذا كان هذا قد حدث في التسعينات من القرن الماضي، فإن ما يحدث اليوم هو تسفيه لبطولات الماضي ونبش لقبور الشهداء وتنكيل بذكراهم وسخرية من استشهادهم في سبيل الوطن وامتهان للنعمة المقدسة، فهل هذا تمرد أم جهل أم تدمير مبرمج بفعل فاعل؟.. وهل تشجعه المؤسسة الفنية القومية لأسباب فنية أم سياسية؟ وقد نسلم بأن تشجيع الفنان فاروق حسني لهذه الأنشطة التجريبية في صالون الشباب أو مهرجان المسرح التجريبي نابع من قناعاته الفكرية والفنية حتي قبل توليه للوزارة، ويعد إبداعه الفني الخاص مصداقًا له، فهل ينطبق ذلك علي الفنان محسن شعلان رئيس «القطاع» سواءقبل توليه منصبه أم بعده؟.. أظن أننا نعرف جيدًا آراءه وأعماله الفنية الخاصة وجميعها تجيب بالنفي.. فإذا لم تكن تلك قناعاته الذاتية.. فلمن تكون إذن؟ لقد تحدث سيادته كثيرًا عقب توليه منصبه منتقدًا سياسة سلفه الدكتور أحمد نوار وملتزمًا بتصحيح مسار القطاع متجهًا بالفن نحو الجماهير، وقرر إيقاف ثلاثة بيناليات دولية بعد استمرار إقامتها بالقاهرة عقودًا متصلة، لأنها إهدار لأموال طائلة بغير عائد علي المجتمع والفنان.. فهل جاء توقفها لصالحهما أم لصالح معارض التجريب والتسفية، ليمثل بذلك النموذج الأول في العالم لدولة ترعي التمرد وتسفيه القيم والاستخفاف بالمقدسات؟ أدرك أنني بما أكتبه أمثل الصوت النشاز وسط جوقة المزامير في معارض القمة، وأدرك أن لكل قناعاته وحساباته، وأن كلا يؤدي دوره علي خشبة «مسرح الحزب الواحد»، أعني «القطاع» الذي يملك وحده سلطة المنح والمنع، ولا يعترف بوجود ممثلين آخرين خارج فرقته، لثقتة الشديدة في أن هؤلاء الآخرين- سواء كانوا ضمن نقابة أو جمعية أو من النقاد- يشبهون الأحزاب الصغيرة في مصر بالنسبة للحزب الوطني، أي ليس لها إلا حق النقد في صفحها الخاصة، أما السلطة والقرار والمال فمع حكومة الحزب، ولأنها أحزاب هشة ومعزولة عن الشعب تلعب مع نفسها أو مع الحزب الحاكم في الكواليس بعيدًا عن الجماهير، فليس لها غير الشكوي والاحتجاج، أما الفنانون «المتكيفون»، الآكلون جاتوه القطاع أو خبز الوزارة أو حتي لقيماتها، في لجان فنية أو سفريات خارجية أو سمبوزيومات داخلية أو مقتنيات متحفية أو كتب بأغلفة كرتونية أو منح تفرغ بمرتبات خيالية، فليس لهم أن يتفوهوا بكلمة دفاعًا عن مئات الفنانين غير المتكيفين، أو دفاعًا عن الجمهور الذي لا يصله شيء من الأنشطة المقامة خلف الأسوار والجدران والقاعات المكيفة في أماكن لا يعرف الطريق إليها أصلاً!.. بل لن نسمع «للأساتذة» صوتًا يدافع حتي عن تخصصاتهم الفنية التي درسوها ودرسوها ولم يمارسوا غيرها (كالتصوير والنحت والحفر) ثم أصبحت في مهب الريح بلا حام ولا نصير.. وفوق ذلك سوف يكون هؤلاء الأساتذة حكامًا في لجان التحكيم للصالون وما يشبهه، ليمنحوا الجوائز لفنانين كفروا بفنون المتاحف التي عفا عليها الزمن، وسوف يدافعون بحرارة عن حق هؤلاء في التجريب، ولو استمر عشرين عامًا أخري لا يطرح إلا الحنظل! لكنني أدرك كذلك.. أن ما أقوله هو صوت الصامتين غير المتكيفين، وهم الأكثر عددًا، وأن صمتهم- رغم سلبيته- لا يخلو من حكمة مصرية تقول: إن دوام الحال من المحال!