عندما شاهدت فيلم «مارد» لأول مرة في منتصف الثمانينات، وجدت نفسي في حالة غريبة من المشاهدة، فطوال أكثر من ساعتين، شدتني أحداث الفيلم بقوة، ومن الواضح أن الفاه كان فاغرا طوال الأحداث إلي أن فوجئت بكلمة النهاية. لكن ما إن انتهت الأحداث حتي بدوت في حالة من الدهشة واستسخفت كل الحالة التي مررت بها، وأيضا الفيلم الذي يعتمد علي جميع توابل السينما التجارية: مليودراما فاقعة، مهارات في المطاردات، أغنيات واستعراضات، ومواقف بعينها تجاه الأم، أو الأطفال تجعل القلب يلهث، ويشغف. الغريب، أن ما حدث لي عند مشاهدة فيلم «مارد» قبل ربع قرن، قد تجدد مرة أخري، مع اختلافات واضحة، فالسينمائيون الهنود يجيدون عمل توليفة خاصة في كل الأزمان، وهذه التوليفة مصنوعة بحرفية شديدة، ولكنه الأمر نفسه في فيلم «اسمي خان». لابد للمتفرج أن ينبهر بشدة أثناء المشاهدة، ثم سرعان ما يكتشف هذه التوليفة ابتداء من مكانة الأم لدي أولادها في الفيلم الهندي بشكل عام، وقدسية الروابط الأسرية بين الأخوة، وقصة حب مليئة بالشغف، ثم التناقض، وأخيرا كل المشاكل في الختام، وأن يكون البطل، أحيانا مصابا بعاهة ما تدفع إلي التعاطف معه. المشاعر الدينية لكن لا شك أن مشاعرنا الدينية، وما يحدث من حولنا كمسلمين جعل تعاطفنا مع رضوان خان، بالغ القوة، ففي داخل كل منا جزء مامن خان، وما يعانيه خاصة أن السيناريو قد اختار الولاياتالمتحدة كمكان للأحداث، وجعل انهيار برجي التجارة في الحادي عشر من سبتمبر 2001، واقعا في وسط أحداث الفيلم، وجاءت جملة رائعة في الفيلم، كانت بمثابة مفتاح التعامل بين الغرب والمسلمين أنه فيما قبل كان هناك تقويمان للتاريخ، هما التقويم الميلادي، ثم الهجري، وهذا هو تقويم ثالث يتولد في التاريخ، هو 11 سبتمبر. كما أن الفيلم سوف يمس شغاف الذين يحملون بطاقات تدل علي أنهم مسلمون، ثم تفتيشهم بوقاحة متعمدة في المطارات، وتعرضوا للمزيد من المضايقات، لذا فإن رضوان خان هو كل واحد فينا، بعلاقاته مع العالم من حوله، خاصة الدولة الأقوي الآن الولاياتالمتحدة. صنعة الكتابة ولابد أن تحس أن «صنعة» كتابة السيناريو قد حبكت موضوعا مؤثرا، لابد أنه يؤرق المسلمين الآسيويين أكثر من العرب الذين لم يتناولوا هذا الموضوع بالكيفية نفسها، فقد جاءت لنا باكستان والهند في الفترة الماضية بأفلام متعددة، كما أن دولا مثل انجلترا قد صنعت أيضا أفلاما مشابهة. «الصنعة» هنا بدت بقوة في المزيج السابق الإشارة إليه ومع هذا فلابد أن تعجب بما قدمه الفيلم من موضوع شائك، وبالغ الأهمية، وذلك من خلال اختيار العناصر السابق ذكرها، أولا حكاية الحب التي ربطت بين الهندوسية مانديرا والمسلم رضوان خان، وأيضا علاقة الحب القوية بين الأم وابنها، وقد سرد خان في خطابه الطويل إلي زوجته ما علمته أمه من تعاليم، صارت نبراسا لحياته، فليس هناك فاصل بين المسلم والهندوسي، ولكن البشر ينقسمون إلي فئتين: الطيبين، والاشرار، وقد صار رضوان إنسانا متكاملا، رغم أنه مصاب بالتوحد، إلاأن الفيلم غالبا جعل توحده في «عوجة رأسه» وأنا شخصيا قابلت الكثير من المتوحدين الذين ليسوا علي شاكلة التكامل عند رضوان، لكن الأم وتعاليمها وذكاء رضوان طوال حياته، قد قللوا من حدة مرضه، كما أن الفيلم قد اصطبغ كالعادة بالأجواء العائلية التي يقدسها الشرقيون، وتبدو السمة الأهم في السينما الهندية، يبدو ذلك واضحا في علاقته بأخيه زاكير وزوجته المسلمة المحجبة حسنية، التي صارت بديلا عن أمه في كل تصرفاتها معه، وأعطي هؤلاء الثلاثة صورة بالغة الإيجابية للمسلم الذي يقيم في الولاياتالمتحدة، فحسنية هي أول من اكتشف أن رضوان مصاب بالتوحد، وفي بيتها هناك لوحات قرآنية مكتوبة باللغة العربية معلقة فوق الحائط. تقسيم البشر والصنعة في الفيلم أيضا قسمت البشر من حول رضوان، كما قالت له أمه، إلي أخيار واشرار فأسرته كلها وزوجته وابنها وبعض الأمريكيين من الأخيار، أما الأشرار فهم رجال الشرطة الذين فتشوه عندما وصل إلي المطار، لمجرد اسمه المسلم، وعندما قبضوا عليه وهو ينادي علي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن، والأشرار أيضا هم الصبية الذين قتلوا الطفل الهندوسي سمير عندما تصوروا أنه مسلم، وذلك أثناء لعبهم معه، كما أن الرؤساء في أمريكا صارو واحد منهم شريرا، بعجرفته وقسوته، أما الثاني فبدا متفهما وهو يستقبل خان كي يقول عبارته المأثورة «اسمي خان» ولست إرهابيا، وهي العبارة التي ظل يحاول أن يغيرها إلي أي رئيس أمريكي. الأخيار في الفيلم يساعدون أنفسهم، ويساعدون الآخرين أيضا مثل قيام خان بانقاذ جيني «الزنجية» المسيحية الأمريكية التي سبق لها أن تعاطفت معه، وقد انتصر الفيلم لكل ما هو ملون ابتداء بالمسلمين والهندوس والرئيس ذوي الأصول الأفريقية بينما بدأ الأبيض شريرا، بالغ الحماقة، ممارسا للعنف وكشف الفيلم عن المتاعب التي يواجهها الملونون، خاصة المسلمين في المدن الأمريكية، حيث إن مانديرا حصلت علي وظيفة رغم أنها زوجة لمسلم. وعلي غرار السينما الهندية فهناك تجذير لكل شيء، حيث نري رحلة رضوان منذ طفولته، وأيضا نتعرف علي ماضي مانديرا بأن زوجها السابق، والد سمير قد سافر إلي استراليا وهجرها، وذلك من أجل إحداث أكبر قدر من التعاطف مع الطيبين، الذين يموت بعضهم في ظروف مأساوية، علي أيدي الاشرار، فكأنما الفيلم يقول رسالته بشكل مباشر: المسلم ليس إرهابيا، وهو طيب، ووسيم مثل الوجه الملائكي الضاحك لمانديرا، والزوجة حسنية، وأن الأمريكي هو القاتل أو الخشن وهو أقرب إلي الإرهاب. شحن ملتهب ورغم اللمحة السياسية للفيلم وقيام خان بتتبع رحلات الرئيس الأمريكي كي يبلغه رسالته بشكل شفاهي أقرب إلي السذاجة، عندما يصيح وسط الناس اسمي خان، ولست إرهابيا، إلا أننا أمام فيلم اجتماعي تدور أغلب أحداثه في مدينة سان فرانسيسكو، وكما أشرنا فإن الفيلم حاول ان «يلملم» كل شيء يخص الموضوع الرئيسي الذي يطرحه وهي أوضاع المسلمين في المجتمع الأمريكي، خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، فهناك حالة من الشحذ الملتهب ضد كل من هم مسلمون. وقد وسع الفيلم من الفترة الزمنية للأحداث، سواء قبل الحادي عشر من سبتمبر، أو بعده، وشحن الكهراهية لدي أبناء الشعب الأمريكي، بوفاة المزيد من الشباب الأمريكي في أفغانستان، وقد حاول الفيلم أن يجمع كما أشرنا، جميع مظاهر هذه الظاهرة كأن ينادي الصبية الطفل سمير بأنه «ابن أسامة». وقد خلق الفيلم توترا ملحوظا، حين قررت الزوجة أن تخرج من عالم زوجها المسلم، لأن «حرقة» رحيل وحيدها جعلها تحس بالخسارة الفادحة وأدركت أن وفاة الابن سببها أنها زوجة لمسلم، وقد بدت الأم إيجابية حين بحثت عن قتلة ابنها، دون جدوي. أما الأشرار الآخرون، فقد قال الفيلم كلمته بشكل واضح، حول الشيخ المتطرف فيزاررحمن الذي وقف خان ضده، وساعد في القبض عليه في الوقت نفسه اختار طيبيه من الأمريكيين، خاصة الصحفي والمحامي الذي ردد: «المسلمون هناك يعاملون كبشر». قمة الذكاء وقد بلغ السيناريو قمة ذكائه، وهو يحدث الأمريكيين بلغة ثقافته، حين تردد حسنية، بعد أن استعادت حجابها قائلة: أنا أدرس لكم الوجودية والحجاب ليس رمزا لديني، حجابي هو رمز لوجودي رغم هذه التوليفة التي تبدو مكررة وصناعية في بعض أجزائها فإن هذا الفيلم الذي يلاقي نجاحا أكثر بلاغة من كل كلام السياسيين الذي لا ينتبه إليه أحد، ورغم مباشرته، إلا أنه رسالة يبعثها المسلمون عن أحوالهم إلي كل الدنيا، وهو بمثابة أول خيط نفتقد صناعته في سينمانا العربية، المليئة بالمهرجانات والأفلام القليلة.