انشغلت الدوائر العالمية مؤخرا بالخلاف المتفاقم بين الصين واليابان حول عدد من الجزر غير المأهولة، في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، والمحاطة بمياه تكثر فيها الأسماك، والشهيرة بأعماقها الغنية بالغاز والبترول ، وجاء اندلاع النزاع علي إثر شراء الحكومة اليابانية للجزر في شهر سبتمبر من إحدي العائلات، وهي الجزر المعروفة باسم " أرخبيل دياويو "، وتسمي " سينكاكو " باللغة اليابانية، مما أثار غضبة شعبية عارمة في الصين، وتظاهر الآلاف في عدة مدن صينية منددين باليابان، كما هاجموا المطاعم اليابانية في الصين، والسيارات التي تنتجها شركات يابانية، كما ارتكب المتظاهرون الصينيون جرائم تخريب في عشرة مصانع مرتبطة بشركات يابانية. وتفاقمت الأزمة بين الجانبين علي اثر دخول ثماني سفن لخفر السواحل التايواني وعشرات من سفن الصيد المياه الإقليمية اليابانية قبالة الجزر التي تطالب بكين وتيبية بالسيادة عليها. وعلي إثر اهتزاز العلاقة بين العملاقين الآسيويين بادرت الولاياتالمتحدة بالتحذير من أن النزاعات علي الأراضي بين عدد من الدول الآسيوية، ومن بينها الصين يمكن أن يؤدي إلي نشوب الحروب، إذا لم تبادر الأطراف المعنية بالتخفيف من حدتها، وقال وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا في مستهل جولة آسيوية شملت الصين إن الولاياتالمتحدة لا يسعها سوي دعم حلفائها في آسيا وفي مقدمتهم اليابان، مشيرا إلي خطورة اتخاذ أي طرف من الأطراف قرارا خاطئا . وكان وزير الدفاع الأمريكي قد قام منذ أيام بأول زيارة من نوعها لقاعدة "كينغداو " شرق البحرية الصينية في وقت تدفع فيه واشنطن تجاه حوار أمني مع الصين، باعتبارها القوة الصاعدة في آسيا والمحيط الهادي، ويضم مرفأ "كينغداو " قيادة أركان أسطول الشمال الصيني . وتشهد المرحلة الراهنة زيادة حدة التوتر بين الصين وعدة دول منها فيتنام وكوريا الجنوبية والفلبين والهند، علي خلفية استشعار بكين بخطر التدخلات العسكرية الأمريكية في قارة آسيا وتكثيف الوجود العسكري الأمريكي بهدف " محاصرة الصين استراتيجيا". النزاع وأبعاده كان من المفترض أن تحتفل بكين وطوكيو في هذه الأيام بالذكري الأربعين لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وبدلا من ذلك، استعر الخلاف بينهما، واندلعت ما أطلق عليها " حرب الخرائط " بشأن إثبات الأحقية لجزر " سينكاكو " التي تطالب بها الصين وتطلق عليها اسم " دياويو "، وتقع هذه الجزر علي بعد حوالي 200 كيلومتر شمال شرق سواحل تايوان، وعلي بعد 400 كيلومتر غرب جزيرة أوكيناوا جنوباليابان، ولم تعرف المياه المحيطة بهذه الجزر في السابق ما تشهده منذ منتصف أغسطس الماضي مما يقوم به خفر السواحل اليابانيون، والتايوانيون الذين يتوجهون بخراطيم المياه والسفن التابعة للصين رسميا وعشرات سفن الصيد التابعة لتايوان من تحركات وتحرشات في المياه المصنفة علي أنها مياه إقليمية يابانية، مما يضيف مظاهر توتر فارقة للمنطقة . ومن أجل تدعيم موقفها التاريخي في ملكية الجزر، قامت وزارة الخارجية اليابانية بتوزيع خرائط صينية تثبت (بحسب طوكيو) حق اليابان في ملكيتها، وتعود بعض هذه الخرائط إلي عام 1933، وصدرت في أطلس صيني أدرجت فيه جزر سينكاكو تابعة لليابان، وأخري صدرت في أطلس عالمي منشور في الصين وتظهر الأمر نفسه . زيادة علي ذلك، استعانت طوكيو برسالة قديمة من قنصلية جمهورية الصين يعود تاريخها إلي 20 مايو 1920 ومضمونها توجه الدبلوماسي الصيني بالشكر لسكان بلدة يابانية لإنقاذهم مجموعة من الصيادين الصينيين علقوا جراء عاصفة رمت بهم علي سواحل جزيرة " وايو " في أرخبيل سينكاكو، مقاطعة يانياما، محلة أوكيناوا، امبراطورية اليابان . أيضا في إطار رحلة البحث التاريخية في الأرشيف القديم، استحضر علماء الآثار والساسة اليابانيون مقالاً قديما في صحيفة " الشعب " التابعة للحزب الشيوعي الصيني في عددها الصادر في 8 يناير 1953، وفيها جزر سينكاكو مدرجة ضمن مجموعة أكبر من الجزر تسمي " ريوكو " وتعود ملكيتها لليابان. أما علي الجانب الصيني، فإن الحركة دائبة ومشتعلة لإثبات ملكيتها للجزر المتنازع عليها، رجوعا إلي ما يطلق عليها "خريطة الكون الجغرافية الكبري" والتي صدرت في 1767، كذلك سحبت الصين من أرشيف أدراجها ما يطلق عليها " أطلس سلالة كينج الكبري " الصادرة في 1863، وكذلك خرائط أجنبية بينها واحدة أعدها الفرنسي "بيار لابي" في عام 1809، وأخري بريطانية تعود إلي 1811، وثالثة أمريكية من عام 1859 ورابعة من البحرية البريطانية تعود إلي عام 1877 . وكل هذه الخرائط، كما تقول الصين، تثبت أن جزر " دياويو " هي جزء لا يتجزأ من الصين، علي حد تعبير وزارة الخارجية الصينية . كما تستعين بكبن بكتب الأدب التاريخي، ومنها نص تاريخي يعود إلي عام 1403 ، بعنوان " رحلة إلي الوراء "، وفيه علي حسب بكين ما يثبت اسم جزر " دياويو " كجزر تابعة للصين . وتقوم الصين بإعداد قانون من شأنه رفع قيمة الغرامة المفروضة بحق أي جهة تصدر خرائط تغفل إدراج جزء من الأراضي الوطنية الصينية، بواقع عشرة أضعاف. وفي ظل هذا المناخ المتوتر والمتصاعد بين الدولتين الرئيسيتين في قارة آسيا، فإن دوائر عالمية تخشي حدوث أي خطأ أو اعتداء من شأنه وقوع حرب لاتحمد عقباها، وتهدد الأمن والسلام العالمي، خاصة أن النزاع بين الصين واليايان علي الجزر المشار إليها له أبعاده الاقتصادية، وقد أثار حربا من التصريحات النارية بين مسئولي البلدين، فوزير خارجية الصين يانج جيشي زعق بكلمات قوية أمام الجمعية العامة بالأمم المتحدة قائلا إن " اليابان قامت بسرقة هذه الجزر في عام 1895"، وزيادة في التصعيد، أشار المتحدث باسم الخارجية الصينية كين غانج إلي القضية و ذهب إلي حد الحديث عما أطلق عليه" التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الصيني في الحرب العالمية المعادية للفاشية (الحرب العالمية الثانية)، لكن بلدا مهزوما يريد احتلال أراضي دولة منتصرة، بطريقة غير شرعية : أين العدل ؟ وجاء اشتعال النزاع علي الجزر بين الصين واليابان مواكبا لذكري ما يطلق عليه "حادث موكدن" الذي وقع في 18 سبتمبر 1931 والذي كان ذريعة استغلتها اليابان لاجتياح منشوريا، ضمن أحداث سبقت الحرب العالمية الثانية .وقد اهتزت العلاقات بين العملاقين الآسيويين بشدة وتأججت المشاعر في الشوارع، وفي البحر، بعد نزول ناشطين يابانيين إلي الجزر المتنازع عليها، وسارعت الخارجية الصينية بإشعال أزمة فجرت مشاعر الصينيين المعادية لليابان، باعتبار ذلك عملا استفزازيا، وانتهاكا لسيادة الأراضي الصينية، كما نقلت هيئة الإذاعة اليابانية أن سفينتين من أصل 11 سفينة صينية تقوم بمراقبة المحيط وتبحر في بحر الصين الشرقي بالقرب من جزر تتنازعها طوكيو وبكين، ودخلتا المياه الإقليمية اليابانية. وفي شوارع الصين، وتحديدا في مدينة شنغهاي، عندما تظاهر حوالي 3 آلاف شخص، رافعين صور ماوتسي تونج، ومرددين " تسقط امبريالية اليابان " فقد ردد كثيرون أنهم يمكن أن " يحاربوا اليابان " بسبب ما اعتبروه انتهاكا لأراضي الصين، وأكدوا انتماءهم لما تدعي " منظمة تحالف الصين الوطنية " . الصين (تستعد) وسط مراسم احتفالية رسمية قصد بها بعث الروح الوطنية الصينية، وبحضور رموز الدولة، جرت مراسم دخول أول حاملة طائرات صينية الخدمة العسكرية للقوات البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني، في ميناء "داليان" شمال شرق البلاد، وبمشاركة الرئيس هوجينتاو الذي يقود الحزب الشيوعي الصيني والقادة العسكريين، ووسط كلمات رئيس الوزراء وين جيا باو والتي أكد من خلالها أهمية دخول الحاملة " لياونينج " الخدمة، لدعم ما أسماه " إلهام حب الوطن، والروح الوطنية " في الصين، والارتقاء بتكنولوجيا الدفاع الوطني . وفي إطار الاحتفال التاريخي، أعلنت المصادر العسكرية الصينية أن حاملة الطائرات الصينية الأولي، قد تدخل الخدمة مبكرا عن موعدها، في ضوء تصاعد حدة النزاع بين الصين واليابان حول جزر دياويو ، وأكدت المصادر أن حاملة الطائرات الصينية قد تم تجريبها 10 مرات، واجتازت بالفعل اختبارات التسيير، وقامت بجولات في المياه المفتوحة، ومن المقرر أن تستخدم أيضا في أغراض البحث العلمية، والتدريب العسكري . وفي سياق ما تعتبره الصين قرارات استراتيجية مهمة اتخذتها اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومجلس الدولة واللجنة العسكرية المركزية ، جاء اعتماد حاملة الطائرات الجديدة، مع معلومات أخري تؤكد الشروع في بناء حاملتين أخريين للطائرات في شنغهاي، في إطار خطة الصين لتحديث قواتها البحرية وتعزيز دفاعاتها وقدراتها القتالية و " حماية السيادة الصينية، والمصالح الأمنية والتنموية " . وتواكب ذلك مع تصعيد في لهجة الصين بدت بوضوح علي لسان نائب وزير الخارجية الصيني تشانج تشي جون لنظيره الياباني أثناء مباحثات بينهما لتخفيف التوتر بسبب النزاع بأن الصين " لن تتسامح أبدا مع أي انتهاك لسيادتها "، ووصف المسئول الصيني شراء اليابان للجزر المتنازع عليها بأنه " عدوان علي حقائق التاريخ والقانون الدولي " . حسابات المواجهة الواضح حتي الآن أن كلا من الجانبين الصيني والياباني يتخذ موقفا متشددا في النزاع حول الجزر، وقد يعود ذلك جزئيا إلي اقتراب موعد الانتخابات التشريعية بالنسبة لليابان، وموعد التغييرات في المناصب القيادية بالنسبة للصين في المؤتمر 18 للحزب الشيوعي في أكتوبر، ولكن يبدو أن هناك حسابات أخري لدي الطرفين تتعلق بجوانب سياسية واقتصادية وجيواستراتيجية، ويدخل في إطار هذه الحسابات علي سبيل المثال ما أعلنه رئيس الوزراء الياباني يوشيهيكو نودا في 1 / 10 من أن بلاده لا تعتزم اللجوء إلي محكمة العدل الدولية بشأن الجزر، بل زيادة علي ذلك قال المسئول الياباني إنه " لا يوجد نزاع إقليمي رسمي بين البلدين " مضيفا في الوقت نفسه أن جزر سينكاكو هي جزء لا يتجزأ من الأراضي اليابانية دوليا وتاريخيا . ومن المفارقات التي تستحق الذكر أنه في شهر أغسطس الماضي اقترحت الحكومة اليابانية رسميا علي كوريا الجنوبية الاحتكام إلي محكمة العدل الدولية في لاهاي لحل النزاع بينهما علي مجموعة من الجزر في بحر اليابان، تسيطر عليها سول وتطالب بها طوكيو . وما يمكن استشفافه في ثنايا النزاع أنه ينذر بنشوب حرب تجارية بين الجارين الآسيويين، حيث أعلنت شركات يابانية في الصين تعليق أو تجميد أعمالها، وأغلقت الكثير من المطاعم والمحال اليابانية أبوابها، وتعرضت ممتلكات يابانية للاعتداء من متظاهرين يدعون لمقاطعة البضائع اليابانية، وتم وضع شركات يابانية عملاقة علي قوائم سوداء، ويمكن أن تعتبر اليابان صاحبة أكبر الخسائر في هذه المواجهة التجارية، حيث يوجد حوالي 50 ألف شركة يابانية في الصين تقوم علي تشغيل أكثر من 20 مليون عامل صيني، ويصل حجم التبادل التجاري بين الدولتين إلي 343 مليار دولار، ويقول الخبراء إن نمو البنية التحتية للصناعات الصينية، واتساع نطاق السوق، والكثافة البشرية الهائلة، ونمو النزعة الاستهلاكية لدي الصينيين، والاستقرار والانتعاش الاقتصادي في الصين، كل هذه امتيازات تتميز بها الصين، وتعوض أي خسائر متوقعة او علي الأقل تخفف منها، بالمقارنة مع اليابان . الصراع الدولي يبدو أن العنصر الأقوي في النزاع بين الصين واليابان حول الجزر هو تأثير " الميراث التاريخي " بين الجانبين، فالعلاقات بين الدولتين لم تتحرر بعد من ذكريات الحرب الصينية اليابانية 1937 1945، وتتهم الصين اليابان بالتغطية علي جرائم الحرب اليابانية علي شمال الصين، وإنكار اليابان للوحشية التي تميزت بها هذه الحرب، وفي 15 أغسطس 2006 جاءت زيارة رئيس الوزراء الياباني السابق جونيشيرو كويزومي لمعبد " ياسوكوني " والذي يضم رفات شهداء اليابان، مما اعتبرته الصين ودولا آسيوية أخري تجاهلا للمعاناة التي لحقت بشعوب آسيا بسبب " النزعة العسكرية " لليابان في الحرب العالمية الثانية . من ناحية أخري، فإن النزاع الصيني الياباني حول الجزر يتجاوز كونه نزاعا ثنائيا بين دولتين عملاقين في قارة آسيا إلي آفاق دولية متشابكة ، حيث إن خبايا أخري يمكن أن تكشف حقيقة هذا التشابك، وكونه مجرد عنوان لصراع دولي متعدد الأبعاد والأطراف في آسيا والمحيط الهادي . ومن دلائل ذلك، كما تبينها لنا الساحة السياسية في الصين أن كثيرين في بكين يعتقدون أن الولاياتالمتحدة هي الطرف المسؤول عن التصعيد الأخير في نزاع بحر الصين الجنوبي، وأن واشنطن شجعت هانوي ومانيلا وطوكيو علي سلوك سبيل المواجهة مع الصين . وتشير دوائر سياسية وإعلامية في الصين إلي أن الولاياتالمتحدة تتبع سياسات " منحازة " في منطقة غرب المحيط الهادي، حيث تتسبب خلافات حدودية بين بكين وجيرانها في إثارة مشكلات لم تجد حلا حتي الآن، وتتهم الصين حكومة الرئيس باراك أوباما بمحاولة تقوية تحالف بلدان رابطة دول جنوب شرق آسيا " آسيان "، حتي يمكن تشكيل جبهة مشتركة في مواجهة الصين، التي تطمح للسيطرة البحرية علي جنوب بحر الصين . من ناحية أخري، وفي الاتجاه ذاته، تقول دوائر معنية في الصين إن إقدام الولاياتالمتحدة في الآونة الأخيرة علي تعديل استراتيجيتها العسكرية، وجعلها تركز أساسا علي آسيا، شجع بعض الدول ومنها اليابان علي التعامل بجرأة مع بكين، خاصة أن جيران الصين الآسيويين يبدون قلقا ملحوظا إزاء زيادة وتعزيز قدرات الصين العسكرية، وتحتفظ الولاياتالمتحدة بنحو 47 ألف جندي في الأراضي اليابانية، كما أن الجزر محل النزاع تشملها معاهدة وقعت عام 1960 تلزم الولاياتالمتحدة بمساعدة اليابان في حالة تعرضها لهجوم . وعلي الرغم من أن العلاقات الأمريكية الصينية تبدو علي المستوي الرسمي جيدة بدرجة ما، غير أن الخفايا تنطوي علي تصعيد في الشك المتبادل بين القطبين العالميين . وفي شهر يونيو الماضي، أعلن وزير الدفاع الأمريكي ليون بنيتا أن البحرية الأمريكية ستعيد نشر قواتها الموجودة الآن بنسبة 50 % في المحيط الهادي والمحيط الأطلسي، بحيث تصبح 60 % في المحيط الهادي، و40 % في المحيط الأطلسي، وجاء ذلك علي خلفية هواجس متزايدة لدي الولاياتالمتحدة وعدة دول آسيوية حول الموقف الراهن في المحيط الهادي، والطموحات المتنامية من جانب الصين التي لا تتوقف عن زيادة نفقاتها العسكرية، وهي في سبيل التأكيد علي حقها في "السيادة البحرية" . ومع ذلك، فإن واشنطن تسعي لطمأنة بكين، وفي زيارة وزير الدفاع الأمريكي للصين منذ أيام أكد أن الاستراتيجية العسكرية الأمريكيةالجديدة، وتوجهها للتركيز علي المحيط الهادي، لا تهدف إلي مواجهة الصين ولا تستهدف عرقلة تطورها، بل ترمي إلي " توسيع دورها " ويقول بانيتا في تصريح له أمام الأكاديمية العسكرية الصينية " إن سياستنا لإعادة التوازن في منطقة آسيا والمحيط الهادي لا تقصد " احتواء " الصين، ولكن لتعميق العلاقات وتوسيع دورها في المحيط الهادي "، وأضاف المسئول العسكري الأمريكي " إنها محاولة لصياغة " نموذج جديد " في العلاقة بين قوتين عظميين في المحيط الهادي " وشدد بانيتا علي الدور الذي يتعين أن تضطلع به الولاياتالمتحدة والصين وهما أكبر اقتصادين في العالم، للتخفيف من حدة التوترات الإقليمية، علما بأن زيارة بانيتا للصين، جاءت بعد اثني عشر يوما فقط من زيارة وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة هيلاري كلينتون لبكين، ضمن جولة آسيوية طويلة استغرقت (10 أيام) في آسيا والمحيط الهادي، مما وصف بأنه رد فعل أمريكي علي زيادة النفوذ الصيني في المنطقة . ومن المعروف أن طوكيو وواشنطن مرتبطان بمعاهدة تحالف مشترك (تضم نظريا الجزر المتنازع عليها) والتي تشرف عليها اليابان، وحتي الآن تدعو واشنطن إلي حل سلمي للنزاع يتجنب التصعيد والدخول في مرحلة المواجهة التي تقحم جيش التحرير الشعبي الصيني، الجيش الأكبر في العالم، في أتون الحرب . آفاق مستقبلية من الثابت أن حديث الصباح والمساء في الولاياتالمتحدة والغرب عموما ينصب علي الصعود السياسي والعسكري لقوة الصين، ونفوذها المتنامي في قارة آسيا، وصولا إلي الفكرة التي تشيع بأن بقية القرن الحادي والعشرين هو صيني/ آسيوي بامتياز . وليس هناك أسباب قوية تجعلنا نعتقد أن الولاياتالمتحدة بعيدة تماما عن نزاعات الدول الآسيوية، وتحديدا النزاع الصيني الياباني . ولا يتناقض ذلك مع كون القارة الآسيوية هي نفسها زاخرة بالنزاعات والصراعات، فهناك نزاعات الحدود بين الصين والهند في منطقة جبال الهيمالايا شمال شرق الهند وتسميها الصين "التيبت الجنوبية"، وهناك الحدود المتنازع عليها بين الصين وعدة دول جنوبي شرق آسيا، فضلا عن التعقيدات التي تكتنف علاقات الهند والصين، والهند والباكستان، والتحالف بين الهند واليابان مع الولاياتالمتحدة، والتحالف الصيني الباكستاني . في سياق ذلك، فإن دوائر الغرب البحثية ومراكز الدراسات تركز حاليا جل أبحاثها واهتماماتها علي تحري فكرة (انتقال مركز القوة من الغرب إلي الشرق) ومدي مصداقية هذا الهاجس المقلق حاضرا ومستقبلا . وعلي مستوي السياسة العملية، فإن كافة ما يتعلق بالاستراتيجية العسكرية الأمريكية وخططها السياسية، يدور في معظمه حول فكرة " مستقبل القوة الصينية " . وفي ضوء سباق انتخابات الرئاسة الحالية علي سبيل المثال يشدد الجمهوريون والديمقراطيون معا علي " قوة الصين "، وتقول تقارير صادرة عن مركز التقدم الأمريكي، ومركز الجيل المقبل إنه بحلول عام 2030 سيكون لدي الصين 200 مليون خريج جامعي، وتكون الهند قد بلورت عملية بناء رأسمالها البشري، وهو ما يمثل تراجعا قاتما للقوة الأمريكية، وتقف هذه الأسباب بقوة وراء الدعوة لزيادة الإنفاق العسكري الأمريكي . ويبدو أن مسألة " التراجع الأمريكي " لها انعكاساتها علي دول آسيوية تعتمد في علاقات علي تحالفها مع الصديق الأمريكي، وهناك دلائل علي تشكك اليابانيين في القوة القاهرة للحليف الأمريكي، فالكتاب الذي ألفه المفكر الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما بعنوان " أمريكا علي مفترق الطرق " جاءت ترجمته اليابانية بعنوان " نهاية أمريكا " . ومن المعروف أن علاقات طوكيو مع جيرانها الآسيويين، ومع الصين تحديدا تتأثر دوما بقربها من الولاياتالمتحدة . غير أن أصواتا أخري ترتفع محذرة من التمادي في هذا التوجه، ومركزة علي فكرة " نقاط الضعف في القوة الصينية " . وفي ذلك يقول ميكسين بي في صحيفة فورين بوليسي الأمريكية " إن مستقبل الصين تكتنفه تحديات عاتية، فهناك تبديد الدولة المتغطرسة لرأسمالها، والنقص في التجديد بوجه عام سياسيا واقتصاديا، ونخبة الحكم الجشعة التي لا يهمها سوي أن تغتني وتدوم امتيازاتها، وافتقار القطاع المالي للتطوير، وتصاعد الضغوط البيئية والسكانية " . ويقول ميكسين بي إن الوقت مبكر علي إسقاط قدرة الحزب الشيوعي علي التكيف والتجدد من الحساب، وبإمكان الصين أن تستأنف الزئير في الأعوام القليلة المقبلة، ولكن لايمكن استبعاد إمكانية تدهور الحزب الشيوعي، وسيرتكب الأمريكيون خطأ استراتيجيا إذا فوتوا إدراك هذا الأمر. وفي ضوء الاستنتاج بأنه " لا بديل عن أمريكا " يري بريجنسكي أنه في ظل " تشتت السلطة العالمية " فإن الصورة المبتغاة يتعين أن تجسد (غربا) أوسع وديناميكي وأوروبا متجددة ومتوسعة لتشمل روسيا وتركيا، وأمريكا التي تجدد ذاتها وتعالج شؤون العالم من واقع مسؤلياتها العالمية، (وشرقا) متوازنا ومستقرا ويضم الصين بفلسفتها التنموية الجديدة، والهند الديمقراطية، واليابان وكوريا الجنوبية، مع تركيز خاص علي حكمة الصين التي لم تستبعد حتي الآن كون الولاياتالمتحدة " عنصر الاستقرار الأهم في العالم ".