لا يوجد شك في أن موسم الدراما التليفزيونية الرمضاني لهذا العام كان موسما استثنائيا لم يحدث من قبل ومن الصعب جدا أن يتكرر من جديد. فمن غير المتوقع أن تتزامن الظروف العامة مع رغبات النجوم مرة أخري لنجد موسما يشارك بأعمال فيه نجوم الشباك السينمائي الشباب كأحمد السقا وكريم عبدالعزيز ومحمد سعد وخالد النبوي وهند صبري، مع النجوم الكبار العائدين للشاشة الصغيرة بعد غياب كعادل إمام ومحمود عبدالعزيز، مع كبار نجوم الدراما الرمضانية دائمي التواجد كنور الشريف ويحيي الفخراني ويسرا، بالإضافة إلي عدد من التجارب الشابة المعتمدة علي البطولة الجماعية. كل هؤلاء توجهوا للدراما التليفزيونية لأسباب مختلفة لسنا بصدد طرحها هنا، ولكن النتيجة هي تزامن تواجدهم بصورة غير مسبوقة جعلت من العسير جدا علي الجميع التفضيل بين المسلسلات واختيار العمل الأجدر بالمتابعة. ومن بين هذا الكم الضخم من المسلسلات المتباينة الجودة والجماهيرية وحجم الإنتاج يمكنني بضمير مرتاح أن أختار مسلسل "شربات لوز" للمخرج خالد مرعي والمؤلف تامر حبيب والنجمة يسرا ليكون العمل الأفضل في رمضان 2012، وذلك لخمسة أسباب جعلت منه ذلك العمل المميز والممتع، وإليكم هذه الأسباب. أولا: الظلال العكاشية يحمل مسلسل "شربات لوز" تماسا ملحوظا مع أعمال الأب الروحي للدراما التليفزيونية المصرية أسامة أنور عكاشة وهو أمر لن يلمسه إلا محبو المسلسلات العكاشية المخلصون الواعون بالتقنيات الدرامية التي اعتاد الراحل الكبير استخدامها. فأسامة أنور عكاشة اعتاد في الكثير من أعماله أن يختار مسرحا مزدوجا للأحداث عبارة عن مكانين مختلفين يتباينان في المستوي الاقتصادي والاجتماعي وفي الأخلاقيات والقواعد الحاكمة لكل منهما يمثل كل منهما نقطة الارتكاز لمجموعة من البشر علي أن تتولد الدراما وتتصاعد عبر مد جسور الصلة بين هذين المكانين من خلال شخصية تجعلها ظروف استثنائية مفتاحا للعلاقة بين أبناء المكانين ودافعا للمقارنات التي يعقدها المشاهد تلقائيا بين العالمين. وإذا كان هذا القالب الدرامي قد قامت عليه معظم أعمال عكاشة وعلي رأسها خماسية "ليالي الحلمية" التي كان الحدث المفجر لها هو قيام الباشا سليم البدري ابن منطقة جاردن سيتي الأرستقراطية بالزواج بسيدة من حي الحلمية الشعبي لتبدأ رحلة درامية للبحث عن تأثير الزمن في البشر وكذلك "زيزينيا" ببطلها بشر عامر عبدالظاهر الذي تحمل عروقه دماء مختلطة بين أمه الإيطالية ووالده المعلم السكندري في دراما التفتيش عن الهوية المصرية، فإن المؤلف الموهوب تامر حبيب قد استخدم نفس القالب بصورة تحاول صبغه بروح العصر. فالدراما في "شربات لوز" تدور بين عالمين متناقضين تماما الأول هو عالم حي حلوان الشعبي الذي تنتمي إليه عاملة التطريز شربات (يسرا) والثاني هو عالم القصور والملايين المتمثل في عائلة مصمم الأزياء العجوز حكيمو (سمير غانم)، وهما العالمان اللذان تدفعهما الظروف إلي التحول من وضع السيد والخادم إلي وضع الند بالند عندما يقوم حكيمو بالزواج بشربات بعد تصعيد درامي أجاد المؤلف رسمه ليأتي بشكل منطقي تماما. ومن هذا القالب العكاشي تنطلق رحلة لرصد الأخلاقيات الجديدة المسيطرة علي المجتمع المصري من قمته وحتي أدني درجات السلم الاجتماعي. والفارق الوحيد بين توظيف تامر حبيب للقالب الدرامي وبين استخدام الراحل الكبير له هو أن عكاشة كان يختار دائما أن تكون نقطة انطلاق الأحداث تالية لوقوع الحدث الجامع بين العالمين، بينما اختار مؤلف "شربات لوز" أن يقدم عدة حلقات تمهيدية سابقة للحدث، ربما ليكون المشاهد قادرا علي فهم طبيعة العلاقات المركبة التي تجمع بين شخصيات المسلسل، أو لكي يقدم المبررات الدرامية الكافية التي تجعلنا نتفهم وصول الأحداث لنقاط قد تبدو للوهلة الأولي غير منطقية وعلي رأسها زواج شربات وحكيمو نفسه. ثانيا: اللاأخلاقية سبب آخر يدعو لاعتبار المسلسل عملا مختلفا عن السائد في الدراما المصرية بشكل عام ولن أقول التليفزيونية فقط هو ذلك الاستخدام الذكي للشخصيات اللاأخلاقية، فإذا كانت الدراما المصرية قد اعتادت بشكل عام علي الوجود الدائم لشخصيات مثالية تمثل القيم الأخلاقية سواء كناصح أمين يرشد من حوله للصواب أو كبريء يعاني الظلم الشديد، أو حتي كمجموعة ضابطة يتم من خلالها تقييم باقي الشخصيات السيئة، فإن تامر حبيب اختار أن يحطم هذا التوازن التقليدي ويخرج لنا بعمل شخصيات بالكامل مليئة بالعيوب والكوارث الأخلاقية. لا أقول بذلك إن المسلسل يدعو للسلبية أو يعادي الأخلاق بل إنه علي العكس تماما يعلي من قيمة التماسك الأسري والصدق في العلاقات الإنسانية، ولكنه ينتهج طريقة غير معتادة لتحقيق ذلك عبر دفع المشاهد للاقتراب والتفاعل مع شخصيات من لحم ودم تمتلك عيوبا صارخة، ليجد نفسه غير قادر علي تجاهل التعاطف مع إنسانيتهم برغم عيوبهم، مع عدم تجميل هذه العيوب أو اعتبارها أمرا يحتذي به. وكأن المسلسل يدفعنا دفعا نحو احترام حقيقة النفس البشرية التي لا يمكن أن تخلو من العيوب ولا يمكن أن تكون بلا مميزات. ثالثا: كسر القواعد المحفوظة وإذا كان السببان الماضيان يرجع الفضل فيهما للمؤلف تامر حبيب فإن الفضل يعود في السبب الثالث لبطلة المسلسل النجمة يسرا ومخرجه خالد مرعي. ويسرا هي أحد الأرقام الثابتة في الدراما التليفزيونية نادرا ما يمر رمضان دون أن نشاهد عملا جديدا لها، وكثيرا ما وقعت في الخطايا التي يرتكبها نجوم المسلسلات بالسيطرة الكاملة علي معظم زمن العرض والظهور الدائم علي الشاشة وجعل كل الشخصيات مجرد أدوات لتلميع النجم وتوضيح مدي روعته وحكمته وذكائه وأخلاقه. هذه المرة نشاهد يسرا في ثوب جديد تماما كممثلة محترفة تلعب دورا كباقي الأدوار يجمع كأي شخصية طبيعية بين العيوب والمميزات، لتبدو كنجمة تعلم جيدا أن ظهورها وحدها لن يضيف لها شيئا ولكن تألقها وسط مجموعة من الممثلين الجيدين أصحاب الأدوار المؤثرة سيجعل الجميع يعجب بها مرتين: مرة لتفوقها في دورها المحوري ومرة لسماحها بظهور هذا العدد الكبير من الموهوبين حولها. لذلك فلم أملك إلا أن أحترم يسرا أكثر في كل مرة تنتهي إحدي حلقات المسلسل وأعيد تذكر أحداثها فأجد النجمة الكبيرة قد ظهرت في مشهدين أو ثلاثة فقط طوال الحلقة، لأن العبرة لم تكن قط بالكم، ومن الذكاء أن يظهر النجم في مشهد وحيد مؤثر في دراما متماسكة فيتذكره الجميع، خير له من أن يطل علينا طوال الشهر في دراما مترهلة تنسي بمجرد انتهائها. رابعا: العلاقات الفريدة وهي مساحة الكتابة التي تميز تامر حبيب فيها منذ عمله الأول "سهر الليالي"، فهو قادر دائما علي نسج علاقات إنسانية مغايرة لكل ما شاهدناه من قبل، علاقات تحمل في طياتها فهما رقيقا لأشياء كالحب والصداقة والأبوة التي نعلم جميعا أنها أكثر عمقا وتعقيدا بكثير من الصور النمطية التي اعتاد صناع السينما والدرامة تقديمها لنا. والعلاقة الثلاثية بين شربات وبين جارها محمد الصناديلي (سامي مغاوري) وزوجته مهجة (عايدة رياض) صورة مثالية لما أقوله، فالرجل يحب جارته حبا عذريا لم يتوج بالزواج، وهي تدرك ذلك وتجيد استغلاله بدرجة ما دون أن تفقد احترامها له، وزوجته تدرك الأمر أيضا بل وتستعين بشربات عندما ترغب في إسعاد زوجها، كل هذا في إطار من الحميمية والطرافة لا يخرج أبدا عن حيز المنطق. قس علي ذلك معظم العلاقات المركبة التي تربط شخصيات المسلسل ببعضها والتي تدفعك دفعا نحو إعادة التفكير في بعض علاقاتك بمن حولك. خامسا: الدماء الجديدة السبب الأخير لتميز "شربات لوز" هو هذا القدر الكبير من الدماء الجديدة التي يضخها لشرايين الدراما المصرية، والمتمثلة في مجموعة كبيرة من الممثلين الموهوبين صغار السن سواء الذين شاهدناهم من قبل وتمكنوا من إثبات مواهبهم كمحمد فراج ونسرين أمين ومحمد شاهين وأحمد داوود ومحمد سلام، أو الذين لمعت وجوههم للمرة الأولي كريهام حجاج وأمينة خليل وياسمين كساب وأحمد صلاح حسني. الدماء الجديدة لا تقتصر علي الشباب فقط، بل يمكن اعتبار عودة النجم القدير سمير غانم للشاشة بعد غياب طويل ليلعب دورا لا ىُنسي هي الأخري نوعا من ضخ الدماء لصناعة تتحرك دائما نحو المزيد من التقولب والدوران في فلك عدد محدود من الأسماء التي يتم ترشيحها لكل الأدوار. لتكون النتيجة النهائية هي مسلسل ممتع ينتهج قالبا محبوبا بطريقة حديثة، ويعد خطوة مهمة في مشوار كل من شارك فيه سواء من الممثلين الصاعدين أو حتي من النجوم الكبار.