لاشك أن إدارة مهرجان الإسكندرية السينمائي قد أحسنت صنعا عندما عهدت للدكتور وليد سيف مهمة رئاسة المهرجان والإشراف علي فعالياته واختيار الأفلام التي ستعرض خلاله. فالدكتور سيف له باع طويل في الحكم علي الأفلام.. واختيارها كما يملك نظرة سينمائية ثاقبة فيما يمكن أن يفعله مهرجان سينمائي متطور في خلق وعي سينمائي متجدد وإحاطة جمهوره بكل التيارات المختلفة التي تتجاذب السينما في هذه الفترة من الزمن. ولقد جاءت اختيارات الدكتور سيف .. هذا العام مهمة وملهمة وشديدة التأثير خصوصا فيما يتعلق بأفلام دول صغيرة تسعي سينماها الثائرة إلي تحطيم الكثير من القيود التي فرضتها السينمات الكبري علي جماهير العالم. أفلام رائعة وهكذا سنري أفلاما من اليونان ومن البوسنة ومن أوكرانيا ومن ألبانيا إلي جانب الأفلام الكبري القادمة من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا. أما الدول العربية المتوسطية فإنها حاضرة بقوة في المهرجان من خلال أفلام شهيرة عرض بعضها في مهرجانات عربية وعرض البعض الآخر في مهرجانات دولية. هناك مثلا فيلم دانييل عربيد «الجريء والمدهش معا» «أوتيل بروت» والذي شكل عرضه في مهرجان كان ما قبل الماضي ضجة تكاد تشبه الفضيحة لاحتوائه مشاهد جنسية مكشوفة لم يعتد عليها المتفرج العربي .. وجرأة من الممثلة الأولي «نادين حمزة» لم تسبقها إليها أية ممثلة عربية أخري علي حد ما أعلم. الفيلم قد يصادف عراقيل كثيرة من رقابتنا المصرية.. خصوصا أن الرقابة في لبنان لم تحبذ عرضه التجاري إلا بعد اقتطاع مقاطع كثيرة منه ومع ذلك سبب عرضه انتقادات كثيرة في الوسط السينمائي. الفيلم يروي بمهارة مدهشة علاقة جنسية عابرة تربط بين رجل أعمال فرنسي يشتبه في أنه جاسوس أو عميل للمخابرات أو تاجر أسلحة يقوم بمهمة ما يدعي أنها مهمة عمل تجاري تدفعه إلي البقاء في لبنان والسفر إلي سوريا.. في رحلات متعاقبة !! وبين مغنية شابة تعمل في أحد الملاهي الليلية هذه العلاقة العابرة ستار براق تتسلل منه المخرجة ببراعة لتصور بروت بكل متناقضاتها حزب الله والميليشيات.. السوريون ومقتل رفيق الحريري التكتلات الغائبة وقواعد الاحكام الصارمة ثم شوارع بيروت وأزقتها ومطاعمها وعلب الليل فيها ومجموعة البشر المتناقضة التي تحيا في أرجائها. نظرة سينمائية بارعة لمدينة تتحول ببطء نحو مصير مجهول تماما كهذه العلاقة الغريبة التي نشأت ثم تطورت وأخيرا ماتت دون أن تترك أثرا حقيقيا في حياة كل من طرفيها. فيلم مدهش ورؤية ثاقبة لمدينة وعلاقة رجل سياسي مضطرب وبلد يبحث عن نفسه. المغرب تساهم في المهرجان بفيلمين أحدهما موسيقي هو «الوتر الخامس» عن شاب يدرس الموسيقي ويدير ظهره للتراث العربي لكن من خلال علاقته بأستاذ عود قديم أصبح قادرا علي فهم تراثه العربي ومقارنته بالتراث الأجنبي الذي يعشقه واحساسه بأنه يقف معه ندا لند. أهمية الفيلم تكمن في اختيار الأجواء الخارجية التي يدور فيها وخلفيته الموسيقية البارعة وقدرة المخرج الشاب علي خلق الجو والرائحة المغربية التي يكاد يشعرنا ونحن نراه أننا نستنشق رائحة الياسمين والورد البري. لحم ودم أما الفيلم الثاني فهو أندرومان من لحم ودم ويروي علاقة مستحيلة بين فتاة أجبرها أبوها المتعصب الكاره للأنثي أن ترتدي زي الرجال وأن تعامل وكأنها رجل في منتجع ريفي ضيق لكن الفتاة التي تشعر بأنوثتها الوليدة تسقط في حب شاب يعمل معها.. مما يؤدي إلي مضاعفات كثيرة علي المستوي الاجتماعي والديني والأخلاقي. القصة تذكرنا بشكل ما بقصة بن جلون « ليلة القدر» التي قدمت أيضا قبل سنتين بصورة فيلم سينمائي لكن الجديد في هذا الفيلم الجديد هو الاحساس المكاني الخلاب للقرية وطرقها وضواحيها وقدرة المخرج علي رسم الجو الريفي ببراعة وعفوية مدهشتين إلي جانب تألق في رسم نمو قصة الحب وتطورها بين الفتاة المتنكرة في زي شاب وزميلها الذي يعشقها. الفيلم مليء بنظرات نشوانة وبحس نقدي مرهف واحساس مرتفع. أما تونس .. فتأتينا بفيلم رضا الباهي أو حلمه القديم الذي استطاع بعد كفاح طويل أن يحققه وهو «دائما براندو» ويروي قصة مخرج سينمائي يكتشف شابا يشبه إلي حد بعيد النجم الأمريكي الشهير مارلون براندوذ فقرر أن يصنع منه «براندو» عربياً ويسعي لكي يجعله يقابل براندو الحقيقي. صعوبات ومشاكل هذا هو الخيط الرفيع للأحداث ولكن الفيلم لا يكتفي بسرد هذا الخيط بل تجول ليدخل إلي عالم الإنتاج السينمائي .. في البلدان العربية ودور المنتج الأوروبي وكل الخلافات والتناقضات والاستغلال الذي يسود جو الإنتاج والمصالح الشخصية والخلافات والمعارك الداخلية التي يذهب ضحيتها هذا الشاب المسكين الذي لا ذنب له سوي أنه نظرا لشبهه بالنجم الكبير.. مسماراً في رحي طاحونة رهيبة تسحق الجميع. إنه يدفع من جسده ومن كرامته ومن طموحه ثمن شهرة ومجد مؤقت وزائف ولا يجد بعد هذه اللحظة الدافئة سوي الفراغ والجمود والنسيان. الفيلم كان حلما قديما لمخرجه دار به علي كثير من المنتجين بل أنه قد عرض فكرة الفيلم علي مارلون براندو نفسه عندما كان حيا ووافق براندو علي أن يظهر في المشهد الأخير الذي يجمعه مع شبيهه وهكذا استطاع رضا الباهي بفضل هذه الموافقة أن يحصل علي دعم إنتاجي لكن براندو الحقيقي يختفي فجأة من الصورة إثر موته. ولكن ذلك لم يهبط من عزيمة الباهي الذي قرر السير في مشروعه حتي النهاية متخطيا كل الصعوبات المادية والمعنوية متحديا شروطا تعجيزية وافق عليها مرغما كي يجد حلمه الكبير يتحقق وهكذا رأينا الفيلم في مهرجان دبي الأخير.. وشكل الفيلم رد فعل متباين بين النقاد لكن رغم كل شيء يبقي الفيلم شهادة سينمائية جارحة وشديدة التأثير عن الجو السينمائي والعاملين فيه وصعوبة إنتاج فيلم سينمائي والتنازلات الأخلاقية المخيفة التي تحيط بالأبطال والفنانين الذين يعملون علي تحقيق أحلامهم رغم الغيلان الشرسة التي تحيط بهم وتمتص دماءهم. فيلم غزير لمخرج عربي كبير سيشكل رد فعل قوياً عند عرضه وهذا ما ننتظره دائما من أي فيلم جيد، ولقد أحسن الدكتور سيف اختيار هذا الفيلم ليمثل تونس وليوجه من خلاله صيحة انذار لسينمايئينا ومخرجينا وشبابنا الذين يحلمون بالشهرة والمجد. الجزائر تدخل المعركة بفيلم رقيق عائلي بعيد عن ضجيج الثورات وصخب الشباب وتناقضات المجتمع.. إنه فيلم عذب مليء بالشجن يحمل عنوان «قديش تجيني» يروي معاناة طفل في الثانية عشرة يضطر بسبب خلافات بين أمه وأبيه أدت إلي انفصالهما أن يعيش في بيت جده وجدته أياما طوالا ريثما يتقرر مصيره ويعرف إلي أي جناح سيتجه. الفيلم يروي ببطء ورقة الحياة اليومية للطفل ومحاولته التلاؤم مع اناس يبتعدون عنه كثيرا بالسن والمفاهيم والنظرة إلي الحياة رغم حبه لهم وحبهم له إلا أن الفجوة واسعة ليس بين جيلين فقط بل ثلاثة أجيال. نظرة الطفل إلي هذا العالم الذي اضطر بسبب ظروفه إلي أن يكتشف عالم الكبار البعيدين تماما عن أية مشكلة يعانيها أو يحس بها. قد يكون الفيلم صرخة عالية ضد الطلاق والانفصال الذي يدفع ثمن عناده الأولاد ولكنه فوق كل ذلك اقتحام فني رقيق وعذب لعالم الطفولة واحاسيسها ونظرتها للحياة. فيلم جزائري يبعدنا عن صراخ الثورات والاحتجاج ويعيدنا إلي قلب أسرة تتفكك وطفل هو ضحيتها الكبري.. رغم الحب والحنان اللذين يحيطان به. مصر ستكون حاضرة في المهرجان بالفيلم الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الرباط الأخير وهو يحمل عنوان «بعد الطوفان» ولا علاقة له من قريب أو بعيد بفيلم يسري نصر الله الذي يحمل عنوان «بعد الموقعة» والذي نتوقع عرضه في نوفمبر القادم. الفيلم أخرجه مخرج شاب وتلعب بطولته حنان مطاوع إلي جانب مجموعة من الوجوه الشابة انه مساهمة شابة في السباق السينمائي المصري التي تقود مهرجان الإسكندرية القادم فعالياته القادمة قبل أن يقدم قصب السبق إلي زميله مهرجان القاهرة. اسهم مضيئة حقا ستشتعل في سماء إسكندرية وستعيد لنا الثقة بأن السينما رغم التنافس الشديد مع مسلسلات التليفزيون مازالت هي الأولي ولا منافس لها حقا بكل ما تحتويه من تيارات وطقوس وتأثير.