هذا الفيلم السوري يعود إلينا من جديد من خلال مهرجان الإسكندرية القادم ليثبت أن الأفلام الجيدة لا تموت وأن الأفكار البيضاء التي تتناثر في جنباتها كالفراشات الملونة لا يمكن أن تختفي من الذاكرة. الفيلم يعود إلي ما قبل سنوات قليلة أخرجه المخرج التليفزيوني الكبير «حاتم علي» في أولي تجاربه السينمائية وحشد له مجموعة متميزة من نجوم سوريا الكبار بدءاً بالراحل خالد تاجا الذي يقدم في هذا الفيلم دورا من أقوي أدواره وأشدها تأثيرا إلي جانب رفيق السبيعي الذي يبدو كعادته شامخا متألقا في دور تتضارب فيه العواطف كلها، وسليم صبري الذي يؤكد مرة بعد أخري تفوقه وقدرته علي التقمص الحقيقي لجميع الشخصيات التي يلعبها مهما تناقضت واختلفت في جذورها واتجاهاتها، كما يلعب حاتم علي نفسه دورا أساسيا في هذا الفيلم الشديد البساطة والبالغ التعقيد معا والذي كتبه بحرفية عالية واحساس ثوري شديد «هيثم حقي» مضيفا إلي قدرته الإخراجية موهبة كتابية مؤثرة وملفتة للنظر. كل واحد من هؤلاء النجوم إلي جانب الشباب منهم كباسل الخطيب وزهير عبدالكريم وأمل عرفة يقدمون من خلال إدارة حازمة للمخرج «تعودنا عليها منذ مسلسلاته التليفزيونية التي لا تنسي» جعلتهم ينطلقون إلي أقصي ما تحمله مواهبهم من إمكانيات. الفيلم يروي قصة ليلة طويلة تبدأ بمونولوج شكسبيري يلقيه فنان سجين من خلال خلفية عاصفة ممطرة لنري بعدها مجموعة من المعتقلين السياسيين في زنزانتهم الضيقة يستمعون إلي صديقهم الفنان يروي ساخرا موافقة السلطات علي إعادة مهرجان المسرح العربي ويستعرض بآسي أسماء هؤلاء الذين صنعوا المسرح في بلده بدءا من الراحلين فواز الساجر وسعدالله ونوس وانتهاء بزكريا تامر الذي نفي نفسه بعيدا عن دمشق التي يحبها». من خلال حوار ذكي مدهش يلقي الضوء علي هؤلاء المساجين الأربعة والذي ينتهي بقرار الإفراج عن ثلاثة منهم تاركين الفنان لوحده في زنزانته ينعي موت الفكر واستحالة كسر القضبان الحديدية الصلبة التي تسجنه. هزيمة نفسية لحظات الوداع الحميمة بين الأصدقاء الثلاثة ووحدة الفنان وهزيمته النفسية كل ذلك أجاد المخرج رسمه والتعبير عنه في مشاهد قليلة سريعة نابضة بالأحاسيس قبل أن ينقلنا إلي الخارج إلي ما يدعونه مناخ الحرية ليروي لنا قصة هذا الليل الطويل. الفيلم كله سيروي ردود فعل أهالي هؤلاء السجناء الذين افرج عنهم بعد سنوات طويلة من الاعتقال. كريم «خالد تاجا» الذي لا يعود إلي منزله والذي يمشي في الشوارع متحسسا حرية افتقدها طويلا ثم يستقل سيارة تأخذه إلي مقر إقامته الأولي ومواطن ذكرياته بينما ولداه كفاح «باسل الخطيب» الذي ورث عن ابيه ثوريته وكفاحه وعناده المستميت في الدفاع عن كرامة الإنسان وحقه مما جعله يبتعد تماما عن أخيه «زهير عبدالكريم» الذي تلاءم مع النظام وقرر الرضوخ له ونسيان كفاح أبيه وأخيه لذلك يجيء خبر الإفراج عن الأب صدمة له عوضا عن أن يكون سببا للبهجة، إنه يفكر كيف سيعيد له بيته بعد أن احتله هو وزوجته وأولاده، يحاول أن يعيد الصور القديمة والأثاث القديم عاجزا عن إعادة الروح إلي بيت فقد روحه. أما الأخ الثالث فقد هاجر إلي فرنسا مع زوجته وابنته وأصبح جزءاً من مجتمع جديد لا يربطه بمجتمعه القديم إلا ذكريات عابرة ووجوه تطل لحظة ثم تختفي وكلمات فقدت أحيانا معناها. الإفراج عن الأب يعيد للمهاجر ارتباط فقده طويلا ببلده ويعيد إليه ارتباطه بزوجته التي بردت علاقته معها. السيناريو البارع الذي كتبه هيثم حقي امتلأ بشخصيات تنتمي إلي بعضها أحيانا بصلة المعرفة وأحيانا أخري بصلة القرابة. ولكن رغم كثرة هذه الشخصيات عرف هيثم كيف يعطي لكل واحدة منها معني وسمة وملامح يساعده علي ذلك حوار ذكي مشرق يتألق كالجوهر كالحوار بين الأخين الذي يكشف الهوة العميقة بين هؤلاء الذين تنازلوا وهؤلاء الذين مازالوا يقاومون. عشق الحرية مشكلة كمال «سليم صبري» مشكلة من نوع آخر فهو يرفض توقيع التنازل الذي تطليه معه السلطات نظير الإفراج عنه بعد أن مر بكل المراحل التي تمهد لخروجه من السجن ويقضي ليلة كاملة يناقش نفسه ولكن حب الحرية يجبره آخر الأمر علي أن «يتنازل» كي يعود إلي حياة طبيعية افتقدها طويلا ولكن هل عاد إليها حقا . إن مشهده الأخير مع ابنة قريبه الصغيرة التي جاءت مع اسرتها لتتابع مراسم الدفن وانطلاقه معها في سهل الريف الفسيح يقول اشياء كثيرة يطرحها الفيلم كأسئلة حائرة تدوي في القلب كطبول افريقية مجنونة. وحده الثائر الناقد «حسن العويني» يبدو لي وكأن السيناريو همشه عن قصد فهو يعود إلي أسرة ترحب به وتنتظره وتعد له الطعام الذي طالما أحبه علي عكس الأسرة الأخري التي عادت خلافاتها إلي السطح بعد أن استقرت في القاع عشرين عاما أو يزيد. حاتم علي ملأ فيلمه بلحظات سينمائية قوية في احساسها ودلالتها كمشهد خالد تاجا وهو يستقبل حبات المطر مطر الحرية علي وجهه المقدس الذي طالما حلم بهذا الماء المقدس الذي حرمته منه القضبان أو مشهد الاستحمام في هذا المغطس الباريزي بين ثائر المهاجر وزوجته التي أصبحت نصف فرنسية ونصف سورية ومحاولة العثور علي خيط رابط بين شخصيتين انفصلتا من الداخل. الحس الثاني في هذا المشهد يصل إلي حدود بعيدة من التعبير أضاف إليها حاتم علي هذه اللقطات المكبرة التي تأتينا بين حين وآخر لقطعة من الأثاث أو صورة قديمة أو نظرة معبرة أو حركة خفية. هذا التأكيد «الصوري» علي الوجوه والأشياء يكشف عن الحس السينمائي العميق الذي يتمتع به المخرج الذي أصبح واحدا من ميزاته الكبيرة وأسلوبه المميز. مطر التطهر ليلة واحدة طويلة يطهرها مطر يكاد يكون رمزيا وشجرة باسقة تمتد أعضاؤها إلي بعيد وترفض أن تموت.. ونفوس تآكلت «حينا» وتمررت أحيانا أخري. قد يبدو السجن في لحظة ما أشد رحابة من هذه الحرية التي جاءت علي عجل .. دفع ثمنها غاليا .. والتي انتهت بموت المناضل وعودة الروح من خلال يد حنون تمسك بيد طفلة لا تعرف بعد جذورها.. لتأخذها إلي السهل الكريم المنبسط أمامها وكأنه نسيج أخضر سماوي من الجنة. الليل الطويل فيلم «حاتم علي» البديع يعود الينا بنجومه وحده وأفكاره وصراعه ونجوم الكبار ليعيد لنا الثقة في سينما سورية تنبعث دائما من رمادها وترفض بإصرار متكبر وعناد قبيل أن تموت.