يشهد المسرح المصري حاليا حدثا ثقافيا رفيع المستوي يخترق لحظتنا التاريخية الفاصلة، يمزق أقنعتها ويطرحها عبر مفارقات الدراما واستعارات الجمال، لنصبح أمام وثيقة إبداعية ثائرة تحمل بصمات المخرج المثقف حسن الوزير الذي رسم قصيدته المسرحية علي ضوء القمر، وأرسل فيضا من روحه إلي الناس والوطن، أهداهم عشقا ووعيا وسحبا مثقلة بالدموع والمطر وظل هو ينتظر شروق الشمس. جاءت الدموع إبداعا وثورة وجموحا ومساءلة.. وكان ميلاد أبوالعريف وشما ناريا علي ذاكرة الروح والجسد، فهي ليست مسرحية عادية، إنها شرارة مصرية خالصة، تختصر الزمن لتبوح وتروي عن الخصب والهمس والليل، والسلطة والوطن تلك الحالة الاستثناء التي يفتح بها المخرج مسارات للدهشة والميلاد ليواجهنا بملحمة درامية مسكونة بقسوة الأقدار ودعارة السياسة ومراوغات التاريخ. امتلاك الوعي ملحمة تمردت علي السائد والكائن وامتلكت وعيها الثائر وقانونها الخاص لتصبح قرارا بامتلاك الذات والحرية هذه التجربة يتبناها مركز الهناجر للفنون وهي باكورة ما تقدمه جماعة المحروسة للمسرح المصري، تلك الجماعة التي أنشأها المخرج حسن الوزير ليكون موضوع اهتمامها الأول هو البحث عن أشكال متميزة للهوية المصرية في فن المسرح وتجسيدها في عروض درامية. وكما تشير الدكتورة هدي وصفي في كتيب العرض فإننا بالفعل أمام مشروع طموح لفنان يعشق اكتشاف مذاقات متعددة لفن المسرح لا يخلو معظمها من طرحه النظري في مشروعه المقدم، ويذكر أن حسن الوزير قدم لمركز الهناجر للفنون نصوصا لأربعة من كبار الكتاب هي: «أرض لا تنبت الزهور» لمحمود دياب، «طقوس الإشارات والتحولات» لسعد الله ونوس، «عريس لبنت السلطان» لمحفوظ عبدالرحمن، «القضية 2007» ليسري الجندي. هذه هي البردية الخامسة للمؤلف المتميز عبدالمنعم عبدالقادر الذي ارتبط بالمخرج في كتابة أربع برديات سابقة ترددت أصداؤها في المسرح المصري وبعثت ردود فعل عالية، وتأتي بردية أبوالعريف لتفتح المسارات أمام اكتشاف مقاربات مسرحية جديدة تعبر عن هويتنا، حيث كانت البرديات السابقة خطوات في نفس الطريق، وفي السياق كتب المؤلف دراما شعبية مستلهمة من تراثنا، واعتمد علي عناصر الفرجة الشعبية، وجاء التوظيف الدرامي للمفردات ليبعث اشتباكا بين الأصالة والمعاصرة، ويمزج بين الماضي والحاضر والحقيقة والخيال، فيتقاطع الزمان والمكان مع الأحداث، وتتفجر إيقاعات الجدل التي تؤكد أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن جذور الاستبداد والفساد والطغيان هي التي تحكم وجودنا في مصر وتعيد إنتاج نفسها بشراسة، وحين يتعانق الاهتراء الإنساني مع مجون السياسة ووحشية الاقتصاد نعايش ميلادا متجددا لنفس التناقضات. وجه شفاهي وكما يشير عبدالمنعم عبدالقادر في كتيب العرض فإن الثقافة المصرية تتميز بوجود وجه شفاهي قوي ينبع من العمق الحضاري لشعب مصر، حيث يمتلك هذا الوجه قدرة هائلة علي التمييز بين الخير والشر والتعبير عن موقف صحيح من كل منهما في مسار التجربة الحية، ولم تكن ثورة 25 يناير في جوهرها إلا تعبيرا كليا جامعا عن هذا الموقف، وقد يتضح حضور هذا الوجه الشفاهي في شعارات جماهير المتظاهرين سواء كان في وجود روح التنكيت في مخاطبة رأس النظام المستبد ورموزه أو في التعبير عن الذات الحضارية الحقيقية للمصريين وهذا النص ليس إلا استلهاما لهذا الحضور وتكثيفا له علي مستوي المعني والشكل. من المؤكد أن هذه التجربة تمثل حلقة شديدة النضج في مسار رحلة حسن الوزير الإبداعية، الباحثة عن أسرار الجذور وأحلام الوعي والانتماء، وفي هذا الإطار يكشف العرض عن جماليات التضافر الهارموني بين الموسيقي الشعبية شاعر الربابة، والأراجوز تلك المفردات التي اتضحت أبعادها عبر حالة مسرحية مسكونة بصراع عنيد ترتكز علي مفهوم الحبكة الدرامية في الحكاية الشعبية، ورغم أن العرض كان يموج بروح الثورة وأنفاسها، إلا أنه تباعد بذكاء شديد عن محاولة الدخول إلي دوائر المباشرة والسرد والتوثيق ونظر إلي الميدان عن بعد ورأي تفاصيل جديدة فيها أشجار ونجوم وأحلام وكوابيس وشياطين واتجه إلي صياغة البهجة والإبهار في عالم أسطوري مدهش قريب منا وبعيد عنا يروي ويشاغب ليضعنا أمام بشاعة الحقيقة، ونلمس تلك الحركة الضمنية اللاهثة لنص آخر مواز حديث ومعاصر ينتمي إلي زمننا الحاكي نستطيع ببساطة أن نحدد زمنه وإيقاعاته وبداياته ونهاياته. يأتي التشكيل السينوغرافي ليفتح أمامنا مسارات المجهول، الخيال الخصب يشتبك مع دهشته التجريب، والبساطة توحي بالأناقة والفخامة وتبعث موجات الوهج وبريق السلطة، وعبر إيقاعات الموسيقي اللافتة يأخذنا الصقر الساكن في العمق إلي ملك بلاد الثعلب فات، وهو يجلس وحوله الحاشية، يجاوره الملك ميموس الأول وستنا الكاملة دهبية.. الغناء يتضافر مع الموسيقي التي تأخذنا في لحظة خاطفة إلي انتصارات أكتوبر والعبور والكلمات تشير إلي احتفال بحرب حسمت صراعاً طويلاً لجيل من بعد جيل. كانت مقدمة المسرح تموج بإيقاعات الوهج كوريوجرافيا الاستعراض المبهر للقوة يتجاوز حدود المألوف، الضوء الدرامي يعانق الألوان وخطوط الحركة الجريئة تبوح بالمعني وتكشف عن جماليات مغايرة، وفي هذا السياق تندفع مجموعة من الملثمين إلي قلب المشهد، الملابس السوداء والأسلحة والطلقات تثير الفزع، بينما تأخذنا المفارقة الصاخبة إلي ميموس الأول وهو يختبئ خلف المقاعد لينجو بحياته، هكذا يصبح المتلقي أمام حركة النص الضمني الموازي حيث الدلالة الحديثة المعاصرة التي تشير إلي اغتيال السادات وبداية عصر جديد من القهر والاستبداد. الفرجة والإبهار ارتكزت الحالة المسرحية علي الفن والفكر والفرجة والإبهار، وكانت البهجة حاضرة بقوة في بردية أبوالعريف التي اشتبكت برشاقة مع التاريخ والتراث والماضي والحاضر لتواجهنا باندفاعات الرؤي الجروتسكية الساخرة لوجود محكوم بالقهر والاستبداد لذلك جاءت الشخصيات حية نابضة مركبة الأبعاد.. مزدوجة الملامح والدلالات تختصر الزمن وتقفز ببساطة من ماضي مومس إلي حاضر داعر.. حين نلتقي بمولانا الغول المعظم سيدي حسن شر الطريق.. تتبلور أبعاد مؤامرات السقوط وبيع الأوطان ونفي الشعوب، ونري كيف أصبح ميموس الثاني ملكا جديدا للبلاد، بعد أن قدم فروض الطاعة والولاء للغول المعظم وقرر تزييف القوانين والدساتير واستلاب روح الناس. تمتد إيقاعات الجدل لنصبح أمام صراع ملموس بين السلطة والشعب، السرد يتقاطع مع الحوار ونعلم أن الشاطر حسن يمتلك وعيا كاشفا يقود الناس إلي المعرفة، وعبر تقاطعات الضوء تشهد خشبة المسرح انتقالا إلي وقع مغاير مسكون بالفرح وجموح الحياة، حيث الطبول والألوان والأحلام وخطوط الحركة التي تواجهنا بفرقة الموسيقي الشعبية الرائعة في العمق وعلي اليمين.. الخلفية البيضاء تشاغب الصقر المعلق، والكتابة الفرعونية علي الحجر الضخم تربطنا بالحضارة والجذور، بينما يتضافر الرقص مع الغناء ليبعث حالة مسرحية مصرية شديدة الإبهار والجمال تحولت إلي محاكمة سياسية تاريخية شفافة.. تسائل الأرض والخصب والتجريف وتدين الفساد ووحشية الاقتصاد، وتغني للقطن طويل التيلة للغزل والنسيج ومصانع المحلة، للعمال والفلاحين ونصبح أمام مفارقات درامية شديدة التكثيف والبلاغة تتقاطع فيها الأزمنة وتحركها تيارات الوعي، التي يبعثها الحضور القوي للأراجوز بكل مافيه من ملامح الشخصية المصرية ذات الحضور القوي المشاغب العنيد المحرض وفي هذا السياق السحري المدهش تمتد رسائل العرض لتشتبك مع أحداث الدم والموت والمحاكمات والبراءة، ويظل الوهج يدفع الناس إلي رفض الكائن وإعلان العصيان علي الصمت والطاعة. يعود الغول إلي قصر السلطة، الأداء الشرس يثير تيارات السادية والتسلط، الزجاجات والكئوس ترتبط بقرارات القبض علي الأراجوز واستلاب روح الثورة، وتأتي خطوط الحركة لترسم أبعاد الملك ميموس الثاني.. حيث يجلس القرفصاء تحت قدمي سيده حسن شر الطريق يفتقد كل ملامحه الإنسانية، يتحول إلي كيان شبحي غائم يتزوج ب«الوتد خانوم» أخت مولاه الذي يراه قليل الأصل، عديم المروة، أسود القلب.. مالوش أمان، عديم الفهم وخسيس.. تلك الصفات التي يعتبرها الغول مناسبة تماماً لمرحلة شعارها التيتة في النانا. يأتي استعراض الرقص بالعصا ليضعنا أمام وهج الجمال الضوئي الخلاب، حيث الشباب والشابات ولغة الجسد وإيقاعات الحركة وشهامة الصعيد الجواني.. الأقصر وسوهاج وأسيوط والنيل والخصب، وحب مصر اللي بجد وعبر كلمات الغناء الحارة نعيش لحظات صدق عارم نمتلك فيها قلب الحقيقة الرافضة للقهر والاستلاب ويتصاعد المضمون الدرامي للحركة لتبعث التكوينات الجمالية توحدا مبهرا بين قبلي وبحري عبر الثقافة والأهلة والصلبان، ويظل الغناء الجميل هو انطلاق إلي آفاق اليقين، بأن ثورة مصر سوف تمتد إلي النجوم لتعانق الحياة والحرية. الأراجوز والعرائس اتجهت لغة الإخراج إلي المزج بين الأراجوز البشر والعرائس واتخذت الحالة المسرحية مذاقات مدهشة حيث تفتحت المسارات أمام مستويات مغايرة من اللغة والحوار فالأراجوز بطبعه سليط اللسان، يمكنه كما يقول.. أن يعطي الوزير بالنبوت، وحين ذهب الوزير بالفعل إلي أهالي بلاد التعلب فات يخبرهم بحفل تنصيب ميموس الثاني ملكا للبلاد، اندفع صوت الأراجوز مؤكدا أن الملك ورجال أعماله.. قالوا للشعب اتعظوا وناموا، وفي سياق متصل يأتي خطاب الملك للناس ليشتبك بقوة مع فلسفة التزييف التي عرفها حاضرنا المعاصر وكان الأداء الجروتسكي الساخر يبعث الضحكات ويثير التساؤلات عن سنوات الغياب الطويل وعبر كاريزما الموسيقي اللامعة، ندخل القصر للاحتفال بتنصيب الملك، خطوط الحركة تأتي مسكونة بالإبداع ميموس الثاني يجلس علي اليسار محاطاً بالثراء والأناقة والنساء، معه الحاشية والملكة السابقة والوزراء، الناس صامتون تماماً والدلالات البليغة تتفجر خلال الحركة الثابتة للوجوه الكاذبة والضحكات الزائفة والأيدي المرفوعة والأوضاع الساكنة، لنصبح أمام امتداد مخيف لسياسة السقوط والاستبداد. يتضافر الضوء والحركة مع الحوارات الكاشفة وتتضح أسرار ليالي الأنس في القصر، الرؤي الجروتسكية تشتبك مع وقائع الفساد، العدالة تغيب ويهترئ الدستور والنظام، الوزراء يهدرون الثروة والثقافة والآثار، والملك ميموس الثاني يعيش مع زوجته الوتد خانوم، حلم توريث العرش لابنهما الفتي الغندور وتأتي الأغنيات الجميلة لتؤكد أن الوريث سيمحو ذكر أحمس ورمسيس وتوت عنخ آمون.. ليصبح هو في قلب الشمس والأضواء. تتقاطع المشاهد بين السلطة في القصر والشعب في مملكة الثعلب فات ويمتد تيار المشاعر الثائرة، التشكيل الجمالي للموسيقي والاستعراض يكشف سخونة الصراع بين الشاطر حسن ووزير القصر.. الممثلون ينزلون إلي الصالة ليتوحدوا مع الجمهور، وتشهد خشبة المسرح مواجهة خطيرة جمعت شعب مصر.. الأراجوز والفلاحين والصعايدة يرفعون لوحات الرفض والعصيان.. السلطة لا تهتم وتعتبر ما يحدث نوعاً من التسلية.. ويظل الماضي يشاغب الحاضر لنصبح في قلب لحظة فارقة.. فاصلة وحاسمة. تقترب النهايات ويتخذ التشكيل الجمالي للصراع أبعادا خيالية مدهشة، الماضي يشتبك مع ميلاد ثورة مصر، الأغنيات تأخذنا إلي لحظات البعث لتموج خشبة المسرح بالحب والموت والحياة.. رجال السلطة يرفعون الأسواط وخطوط الحركة تدفع بالأجساد إلي جدل الوجود والعدم.. الرصاص يفجر الدماء والطلقات تحصد العيون والأرواح بينما تبعث أجساد الشهداء موجات الإصرار والحياة.. وفي هذا السياق يأخذنا التشكيل الجمالي إلي لحظة شاعرية تموج بالمعني والوهج.. فالحياة تعول وشعب مصر لا يموت، وينتفض أبطال العرض ليرفعوا زهرات القطن البيضاء، ونصبح أمام مفارقة شديدة الثراء تبحث عن الخصب والأرض وتنادي الحرية والحياة. من المؤكد أننا أمام تجربة لافتة شديدة التميز شارك فيها فريق عمل ضخم.. فكان الديكتور لإبراهيم الفوي، والأزياء لفايزة نوار، والألحان المدهشة لأحمد خلف، والأشعار لمحمد الشاعر، وكانت الاستعراضات لسيد البنهاوي. أما شباب فرقة المحروسة فهم يمتلكون طاقات واعدة وقد تميز منهم محمد مديح، كرم أحمد، محمود بغدادي، هاني إبراهيم، أشرف فؤاد، دعاء، حسن عبدالوهاب، عماد عبدالعظيم، شيماء فوزي والفنان الجميل عادل ماضي. كما شارك العرض.. ولاء، آية محمود، حمادة شوشة، والشاب الواعد مصطفي شيتوس.. ويذكر أن فرقة الآلات الشعبية وشباب الاستعراض كانوا نجوما لامعة، أضافت أبعاداً جمالية للعرض.