تدعونا أحداث العباسية المحزنة والمختلفة في خطورتها وحساسية الأماكن التي وقعت بها لمعاودة التدبر بأكثر من أي وقت مضي وأي حوادث سبقت، في النداء الملهم الذي رفعه الشعب المصري، منذ بداية الأحداث يوم 28 يناير 2011 " الجيش والشعب» إيد واحدة "! نزلت القوات المسلحة في ذلك اليوم وقد أنيط بها حماية أمن البلاد والناس، لتجد في مواجهتها لافتات رفعها الشعب الثائر ضد نظام حسني مبارك " سلمية .. سلمية "، فردّت بإعلانها الحرص علي عدم استخدام العنف ضدّ الشعب المصري وبأحقية وشرعىّة مطالبه. وقد قيل مرارا خلال الاصطدامات التي وقعت بين حين وآخر إنّها عقيدة القوّات المسلّحة، وأكّد مؤخّرا اللواء أركان حرب محمّد العصّار عضو المجلس الأعلي لهذه القوّات، في المؤتمر الصحفي حول أحداث العباسية، أن هذه العقيدة تنطلق من مبدأ أنّ القوّات المسلّحة ملك للشعب كما جاء في دستوره. هذا كنز حقيقي من عرابي إلي لحظتنا الراهنة، سيكون من الأسوأ الادّعاء بأنه غير موجود حتّي وإن وقعت صدامات وسالت دماء ! تتجاوز فيها مسألة العنف أن تكون مجرّد أسف المجلس علي ضحايا ومصابي أحداث العبّاسية و إحصاءات القتلي والمصابين والبحث عن الطرف المدان وأدلة الإدانة . لحظة مؤسسة وجدير بنا ومصر تعيش لحظة تؤسس لمرحلة جديدة كما جاء في كلام العصّار، تبني فيها مؤسسات الدولة علي أسس ومبادئ جديدة ،أن نفهم فهما صحيحا الصعوبات التي تواجه "الشعب والجيش يد واحدة" في التقاط نقطة البداية لبناء الجمهورىّة الثانية. لاأعتقد أنّ الجماهير كانت تمثل أو تعيش أوقاتا عاطفىّة حماسية حينما صعد أفراد عادىّون من المتظاهرين أىّام يناير إلي أسطح الدبّابات يتبادلون العناق والقبلات مع الجنود . ولكي نمحص الأشياء الطىّبة أكثر، فلا أخال أيضا أنّ قادة الجيش قد ضعفوا واستكانوا أو تكتكوا، فتغاضوا عن دبّابة شاهدناها في تلك الأيام تروح وتجيء في الميدان وقد كتب الثوّارعلي مقدّمتها "يسقط حسني مبارك " وكان لايزال القائد الأعلي للقوّات المسلّحة ! ليس ثمّة من يعجز عن إدراك الحقيقة حين يمعن النظر في لحظات تواجه فيها الجماعة السكانية في مصر المصير الواحد! ففي هزيمة يونية 1967م تجلّي ردّ فعل أسطورة الجيش والشعب " إيد واحدة " في رفض تنحّي عبد الناصر عن منصب رئيس الجمهورية . وملأت الشوارع مظاهرات الجماهير في 9 و10يونية تمدّ له في حبال العزيمة والتفاؤل، وتمسح علي جروح القادة والضبّاط والجنود وتطالب أيضا بمحاسبة المسئولين عن الهزيمة . واستمرّ الشعب يكدّ ويكدح ويقتطع من قوته وقوت أولاده ويؤجّل غده حتّي تحقّق القوّات المسلّحة نصر مصر في أكتوبر1973م. ثم قامت ثورة 25يناير ليصنع الشعب المصري من أسطورة المصير الواحد، أسطورة الصوت الواحد، مايشبه إجماع المصريين الجيش والشعب، نريد أن نكون مواطنين، ولانحبّ أن نري مرّة أخري ذلك النظام بالذات الذي ركّز القوّة السياسية والاقتصادية وأدوات القمع في يد شخص واحد وحزبه، وتعبيرات ملفقة عن الإرادة الشعبية. تأخذ مصر في التفكير في نفسها ككلّ أكبر !غير أنّ هذا الأفق الجديد الذي انبثق من وقفة المصير المشترك لثورة يناير،يولدمع الأسف الشديد محدّدا بعيوبنا الوراثية للستّين سنة الماضية علي الأقلّ . وإذ لم تتوفّر للثورة كظرف تاريخي وبشكل واع ومقصود قيادة جديدة للجماهير توحّدها علي طريق التغيير وتلاشي العيوب الموهنة الخطيرة لغياب أو تضييع الوعي بالهدف، تغلب الصورة العفوىّة التلقائية، وسياسة التعبير الأناني عن النفس أو الفئة . تشيع أجواء القلق التي تربط بانفعال بين مآسي المحرومين ومخاوف وشكوك المصرىّين المستقرّين الذين رغبوا وشعروا بأهمية إحداث تغيير،ولكنّهم يخافون مداه أو تماديه. ويزيد الأمر سوءا الانشقاق الذي قامت تطرحه جماعات "استثمار الدين"، طلعوا علي مصر، والثورة تخطو خطواتها الأولي،يكشفون عن وجوههم في استغلال التمسّح بالدين لاقتناص الدولة ولاأقلّ من كلّ مؤسساتها! أقحموا المصير الواحد - الجمهورية الديمقراطية إلي رحي الصراع علي السلطة،وخلقوا دائما بأنانيتهم ورغبتهم في فرض رؤيتهم وضعا قابلا للالتهاب. فإذا المجتمع الذي أشاد العالم بسلمية ثورته يجد نفسه في تناقض حاد بين نجاحه في إسقاط حسني مبارك وإخفاقه في أن يكون لهذا الإسقاط غايات ذات معني. بقيت الثورة المصرىّة ودخلت عليها ذكراها الأولي وتكاد تكون بلا اتّجاه حبلي بالإمكانىّات المتاحة أمام قدرة إنجاز مضعضعة مفتّتة، ما الخيارات ؟ كيف تتحدّد الخيارات؟ ومن الذي يحدّدها ؟ ولماذا نطالب بالدستور أوّلا؟ ووجدنا أنفسنا إزاء أخطار الإشراف الزائد علي الحدّ من قبل جماعات " الدولة الدينية" وقد ربحوا لأنّ عددا هائلا من المصريين لم يتح لهم بعد أن يكتشفوا ماتخبئه له الثورة المصرية في مخازنها. عقم الناخبين هذا الاتّجاه بتركيز الإخوان علي مصالحهم والتي يصوغونها فيما يسمّي مشروعهم للنهضة والذي يتبلور كما جاء في تدشين حملة انتخاب مرشّحهم لرئاسة مصر الدكتور محمّد مرسي، في "الولايات العربية المتّحدة وعاصمتها بيت المقدس "، إنّما يعكس حالة العقم التي يبتلي بها الناخبون المصريون فيما يتعلّق بإقامة دولتهم الديمقراطية. يشعر المصريون بقيامهم بثورة، لكنّهم يشعرون بأنّ سيطرتهم عليها قليلة،أين سيجد الفقراء وسكّان العشوائىّات تصحيح أوضاعهم ومحو أمىّتهم وتعليمهم والرعاية الصحّية الأوّلىّة في ظلّ هذا المشروع المتضمّن للعسكرة والجهاد ومزاجات الفاتح والناصر والغازي؟ وفي الظروف الاستمرارىّة النسبىّة لفترة الانتقال،حيث قضايا التحوّل للديمقراطية من الدستور أوّلا إلي الاستفتاء علي التعديلات الدستورية إلي انتخابات البرلمان ،كوسائل للتعبير الشخصي عن الأفضلية في المجال السياسي،لاتؤتي أكلها، يتصاعد تفتّت الوعي العام . ولم تمنحنا حتّي الآن نتيجة الاستفتاء وانتخابات البرلمان علي كفاءة في مجال التعبير عن الإرادة الشعبية، اللهمّ إلاّ التضليل بغزوة الصناديق واحتشاد البرلمان بالجلاليب والذقون مختلفة الألوان والأطوال، والأذان للصلاة في القاعة وإقحام قضايا إغلاق مصانع الخمر وختان الإناث كدعاية انتخابية في معركة الرئاسة! ومعظم القرارات التي اتّخذها البرلمان حتّي الآن تصبّ في مصالح خاصّة بالإخوان وحلفائهم من السلفيين . والنتيجة أمر متناقض، يثير اهتماما حادا بالسياسة والوقفات وأىّام الجمع وأخيرا وليس آخرا أحداث العبّاسىّة ومحاولة اقتحام وزارة الدفاع، بينما يزيد كلّ ذلك الشعور بعقم السياسة ! وتكاد الانتخابات الرئاسية بوجه خاص بما يحتاج إلي إفراد مقالة أوأكثر، ورغم الأهمية التي يعطيها التليفزيون للمظهر والأسلوب، تكاد تكون احتفالا ومهرجانات، أكثرمنها ممارسة واختبارا وتحديدا للخيارات الرئيسية التي تؤثّر في ولادة الجمهورية الثانية وبدءا من فترة الانتقال. لا شكّ أنّ مايطالبنا به اللواء العصّار واللواء الملاّ من أعضاء المجلس العسكري من تعاون وتكاتف الجميع في اللحظات الحرجة لبناء مصر الجديدة، يكمن في المخاض الصعب للخروج من رحم الاستبداد والطائفية الدينية. وماكانت تجربة الولادة الحية من جديد لتعطينا أفضل ممّا أعطتنا، وكما هي العادة تختلف ادعّاءات الصدق بين حادثة وأخري، فأحداث ماقبل العباسىّة مثل ماسبيرو ومحمّد محمود والقصر العيني ومجلس الوزراء لم تكن بحقّ وصدق قابلة للتعايش مع الثقافة السياسىّة لثورة أعجب العالم وأشاد بسلمىّة الجماهير التي قامت بها . لكن ماذا نقول بإزاء حق الدفاع الشرعي والقانوني عن النفس الذي يلزم رجال القوات المسلحة بالدفاع عن مقر وزارة الدفاع وجميع المنشآت والوحدات العسكرية باعتبارها رمزا لشرف العسكرية وهيبة الدولة كما جاء في تصريحات اللواء الملاّ من أعضاء المجلس العسكري ؟ لقد تفاقمت أحداث الاصطدام عندما سمحنا أو استعنّا بالخلط بين العنف الإجرامي والعنف السياسي. كما خضعت الفترة الانتقالية مع الأسف الشديد، لمقولبات الصحافة والإعلام وبضعة ابتكارات من محاورين ومتخصّصين حول قضايا الصراع علي السلطة وتفادي العنف وأحداث الصدام الدموي وسقوط الضحايا. تسليم السلطة يؤكّد المجلس العسكري أنّه سيسلّم السلطة إلي الرئيس المنتخب في نهاية الفترة الانتقالىّة والتي يعلن دوما حرصه علي ألاّ تتجاوز المدي الذي حدّده لها - ولم يبق سوي أقلّ من شهرين. فإذا تحقّق الوعد وفاز أحد المتسابقين علي رئاستنا فإنّه لايستطيع أن يضمن لنا ألاّ يكون هناك بؤس وصراعات ومظالم أخري، وقد تكون مختلفة،جديدة وقديمة، وفي أسوأ الحالات قد يتمكن ديكتاتوريون جدد! وإذا سرنا في شوارع القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المحافظات فمازلنا نستطيع مشاهدة الدولة الغبراء المعتادة علي مرّ عشرات السنين، ومبانيها محتشدة بالموظّفين الجاهزين بأكاذيبهم المفبركة المعدّة سلفا، والاستمارات التي يجب أن تملأ، وموقف: نحن نتظاهر بأننا نعمل وأنتم تتظاهرون بأنكم تدفعون لنا أجورا! هذه هي قضية الديمقراطية قبل أي وعود مخملية ملأت كراريس البرامج . كيف سينجح الرئيس القادم في صياغة نوع من الرابطة بين مؤسسات الدولة وبين نوايا الأ فراد وتقديراتهم، كيف سيحافظ علي الجيش والشعب يدا واحدة؟ نحن ديمقراطىّون ليس لأن الأغلبية ( أو الرأي العام ) دائما علي حقّ، وإنّما لأنّ الديمقراطىّة هي الأقلّ شرا بين كل مانعرف من تقاليد الحكم. فإذا رأت الأغلبية أن تدعّم الاستبداد، فالدكتور محمّد البرادعي لايفترض وجود تناقض قاتل في رؤاه، انسحب من معركة الرئاسة، وأعلن عن تأسيس حزب الدستور، فتقاليد الديمقراطية في مصر لم تصبح قوية بعد بما فيه الكفاية!