حدث ثقافي مهم فجره المركز الثقافي الهندي بالقاهرة.. احتفاء منه بمولد شاعر الهند الأعظم «رابندرانات طاغور»، أول كاتب أسيوي يفوز بجائزة نوبل للآداب وبفضله توجهت الأضواء العالمية، لاكتشاف الأدب الأسيوي كله والذي ألقت عليه الحضارة الأوروبية المسيطرة غطاء كثيفًا .. منع الكثيرين من تذوقه والتمتع بثماره الناضجة. هذا الحدث الثقافي الاستثنائي أعاد إلي ذاكرتي الأيام الأولي من تكويني الثقافي والفني حيث اكتشفت مبهورا وأنا في سن الثامنة عشرة أول كتاب ترجم لأشعار طاغور أدخلني بالتو في عالمه الروحاني الرحب والواسع والمليء بالظلال والنور وكان طريقي بعد ذلك لاكتشاف دور الأدب الأسيوي الياباني والصيني وبعض نماذج الأدب الإيراني والفارسي المشتعل بالروح العربية والإسلامية الممتزجة برياح مجوسية معطرة وتأكد هيامي بأدب طاغور وأشعاره حينما قرأت بعض قصصه المترجمة وتحول هذا الهيام إلي عشق حقيقي عندما اكتشفت طاغور من خلال رؤية سينمائي عبقري أعاد للسينما الهندية اعتبارها وكرامتها وموقعها المميز في خارطة السينما العالمية وأعني به السينمائي الكبير سايا تجين راي، حيث شاهدت لأول مرة فيلما من اخراجه لقصة شجرة لطاغور هي «شارالونا» في إحدي دورات مهرجان «برلين» السينمائي. وكان قد سبق لي أن بهرت بسينما هذا الهندي «الشاب آنذاك» منذ فيلمه الأول «باتر باتشالي» الذي شكل ثورة حقيقية في مفهومنا للسينما الآسيوية وجعلنا نكتشف من خلال سينماه الذاتية «هندا» حقيقية لم نكن نعرفها واستطاع هذا المخرج الكبير بفيلم واحد أن يدخلها إلي قلوبنا كسهم من نار.. لذلك كان اجتماع كل من «راي» و«طاغور» في فيلم واحد حدثا استثنائيا خارقا. البيت والعالم وتأكدت هذه المعجزة مرة أخري عندما عرض فيلم آخر ل«راي» مأخوذ عن قصة كبري ل«طاغور» هي «البيت والعالم» في مهرجان «كان»، وتأكدت الرؤي وباتت الخطوط الخفية خطوط الذهب العابقة المختفية في جوانب الخشب العتيق الذي يعبق برائحة حضارة قديمة قدم الأزل، ومواهب تتناثر كالجواهر النادرة في طيات جسد مخملي فائق الجمال. لذلك جاءت هذه المفاجأة المدهشة التي قدمها لنا المركز الثقافي الهندي في القاهرة بعرض عدد من الأفلام التي اخرجها مخرجون من عقود مختلفة عن قصص كاتبهم الأعظم «طاغور» ومن بين هذه الأفلام بالطبع فيلم «البيت والعالم» الذي أخرجه «راي» وفيلم «البنات الثلاثة» وهو عبارة عن ثلاثة أفلام متوسطة الطول ترسم نماذج ثلاث نساء اختارتهن ريشة «طاغور» برقة وحساسية ورهافة مدهشة إلي جانب فيلم وثائقي عن «طاغور» اخرجه وقدمه صديق عمره «سابا تجين راي»، بالإضافة إلي عدة أفلام أخري أخرجها آخرون وصبت كلها في خضم هذا البحر الواسع الممتد بحر «طاغور» وإلهامه. ولنبدأ بالفيلم الوثائقي المهم الذي ألقي نظرة تاريخية وموضوعية علي نسب طاغور وأصوله الأسرية والاجتماعية وطريق كفاحه ومواقفه البطولية السياسية منها والأدبية. فيلم كتبه وأخرجه صديق العمر ولكنه مع الأسف خلا من النظرة الخاصة التي تميز سينما «راي» والتزم بموضوعية وحيادية لم نكن نتوقعها أو نرجوها من سينمائي بهذا الطراز وكم كنا نفضل أن نري خلجات راي تتواجه مع خلجات طاغور تلتقي وتختلف وتشكل لونا زاهيا مختلفا عن الألوان المعتادة التي تعودناها. ولكن هذا العيب الصغير اختفي تماما في الرؤية السينمائية التي قدمها «راي» في فيلميه الأخيرين «البنات الثلاثة» و«البيت والعالم». في «البنات الثلاثة» رسم «راي» كما قلنا نماذج شعرية مختلفة شديدة الحساسية وعابقة بالشعر والنغم. الأولي هي طفلة صغيرة تعمل شبه خادمة لدي شاب قادم من المدينة ليعمل في القرية موظفا في البريد، انه يواجه العزلة والغربة والقرية ويحاول قدر جهده التلاؤم مع واقعه الجديد لذلك فإنه يضع كل همه في هذه العلاقة الغريبة التي تربطه مع هذه الخادمة الصغيرة ابنة العاشرة التي اوكلوا إليها مهمة خدمته والعناية به. علاقة مدهشة «طاغور» رسم حدود هذه العلاقة المدهشة في غموض شعري اعطاها جمالها وسريتها، علاقة مستحيلة لم تكتمل إذ يقطعها رحيل الموظف وبقاء الطفلة أسيرة ذكرياتها وأسيرة حلم لمع كالبرق ثم اختفي نهائيا من حياتها. لقد ركز «طاغور» بشكل تلقائي في قصته علي خطوط «فرويديه» أعاد راي تشكيلها بحساسية لا حدود لها وبرقة غنائية مذهلة. أما النموذج النسائي الثاني في قصة «المجوهرات الضائعة» فهو نموذج شديد السلبية عن امرأة تعشق الجواهر جشعها يقودها إلي الجريمة وإلي تجاوز النفس وإلي خيانة كل من حولها. صورة قاسية جدا عن المرأة زينها راي برسمه صورة لمجتمع بورجوازي براق كل شيء فيه ثمين وخادع.. ووراء كل بريق يختفي وجه الموت العفن. استطاع راي من خلال ديكوراته واكسسواراته أن يعطي بعدا خاصًا للشخصية كما رسمها «طاغور» مضيفا إليها آخر الأمر بعدا ميتافيزيقيا يتمثل في تجسد الموت. أما الصورة الثالثة للمرأة كما يقدمها طاغور فهي صورة نابعة من أصول شاعرية إذ أنه يقدم لنا صورة فتاة متمردة تماما من مجتمعها وتقاليدها منطلقة كالهواء بريئة كالورود شفافة كالفراشة يتهمها الجميع بالجنون وترتبط بعلاقة خاصة مع شاب مثقف، «راي» يرسم هذه العلاقة التي عبر عنها «طاغور» بمشاهد تفيض رقة وشجنا ويجعلنا نحس ونحن نري تصرفات الفتاة ونزقها وعفويتها ومرحها وحزنها الداخلي وكأننا أمام شخصية من شخصيات أديب أمريكا اللاتينية «جارسيا ماركيز» القصة تضعنا وجها لوجه أمام حذلقة الثقافة وجمال وعفوية العواطف الحارة المنبثقة من قلب قادر علي العشق والهوي. صفحة نابضة من العواطف زركشها أديب كبير وسينمائي مرهف أما في «البيت والعالم» وهي واحدة من أشهر قصص «طاغور» تتمركز فيها آراء حول المرأة والسياسة والمجتمع دون العواطف في توجيه حياتنا.. ودور الثقافة الزائفة. جوهر النزاع «طاغور» يدخل في قصة هذا إلي جوهر النزاع بين المسلمين والهندوس ويقف إلي صف المسلمين مدافعا عن حقوقهم ويرسم صورة لرجل مثقف أراد أن يخرج امرأته من عزلتها النسوية لتشارك في الحياة العامة فيوكل إلي صديق عمره أن يكون مرشدها السياسي والاجتماعي ولكنها تقع في حبه.. وكادت أن تسقط في الخيانة. الفيلم هذه المرة ينحو منحي التراجيديا لأنه يرسم الصراع بين القيم الكبري سواء من خلال الحروب الدينية أو من خلال الصراع الاجتماعي أو من خلال التركيز علي دور المرأة وحدودها في الهند الجديدة التي تبحث عن نفسها. انه الصراع الأزلي بين الصداقة والحب بين الثورة والعقل بين حقوق المرأة وموقعها الاجتماعي التقليدي. «طاغور» يطرح سؤالا كان حادثا في زمنه هل تعليم المرأة واعطاؤها حريتها يعني تمردها وانطلاقها اللااخلاقي .. هل تقود هذه الحرية المرأة رغما عنها إلي الخيانة. «طاغور» يطرح اسئلة يعيد سايا جين راي طرحها بشكل سينمائي قوي مركزا هجومه علي الثورات الدموية مدافعا عن حقوق المسلمين مهاجما وصولية الهندوس وأنانيتهم. الفيلم يقول أشياء كثيرة لا حصر لها.. يدخلنا في متاهات عديدة ويجعلنا نواجه أنفسنا بأكثر من سؤال وأكثر من تحدي. انه دور السينما التي تحمل مشعل الأدب عاليا من خلال عملاقين أعطيا الهند تاجها الذهبي. شاعر مرهف وصلت اشعاره إلي أعلي السحاب وسينمائي عرف كيف يجعل من هذه الأشعار ثوبا مزركشا لامعا نراه مبهورين، ونغرق في ألوانه وخيوطه إلي مالانهاية. حدث ثقافي حقيقي أضاء سماء مصر خلال أيام قليلة وأعاد إلي ذاكرتنا ما كدنا أن ننساه قليلا . وهو أن الشرق كان ومازال مهدًا حقيقيا لحضارات العالم وروحانياتها واشعاعها الثقافي. وأنه قد آن الأوان لنزيل عنه الستارة الشفافة التي حاول الغرب أن يلقيها عليه لتخفي ضوء جواهره الثمينة واشعاعه.